|
اللاعنف والمقاومةNonviolence and resistance
بتاريخ 11 تشرين الأول/أكتوبر 1930، غادر جواهرْلال نِهْرو سجنَ نيني Naini بعد أنْ قضى فيه فترةَ حُكْمِه. فسيستغل بضعةَ أيام من الحرية ستعطيها السلطةُ له في فتح جبهة مقاومة جديدة. فهو يعي ضرورةَ إعادة إعطاء ديناميكية جديدة لعمل العصيان المدني. ولأجل هذا، يريد السعيَ لتعبئة جماهير الفلاحين. فالإضراب على الضرائب كان قد بدأ أصلاً في غوجارات Gujarat. وكان نهرو يريد تنظيمَه في الأقاليم الاتِّحادية. مع ذلك، كان هناك صعوبة: ففي هذه المنطقة لم يكن الفلاَّحون يدفعون الضريبةَ مباشرةً للدولة، بل لكبار المَلاَّكين الذين كانوا يقومون بدَور الجُباة. ولمحاولة تفادي هذه الصعوبة، قرَّرَ نِهْرو وقادةُ حزب المؤتمر المحليين أنْ يطلقوا دعوةً للإضراب على الضرائب بحيث تكون هذه الدعوةُ موجَّهةً للفلاحين وللمَلاَّكين في آن واحد. فدَعوا بهذا الشأن إلى عقد مؤتمر لممثلي فلاحي المنطقة. حيث جرى بتاريخ 19 تشرين الأول/أكتوبر. وبكل حماسٍ قرَّر المندوبون الحاضرون الذين بلغَ عددهم السِّـتَّـمِئةَ والألف الإضرابَ على الضرائب. واعتُقِلَ نهرو من جديد عند خروجه من المؤتمر وسيقَ ثانيةً إلى سجن نيني. وجرت محاكمتُه بتاريخ 24 تشرين الأول/أكتوبر وحُكِمَ عليه بالسجن لمدة سنتين حكمًا مشدَّدًا لقاءَ تُهمتَينِ هما إثارةُ الفتنة وخَرْقُ قانونِ المِلْح. غيرَ أنَّ سجن نِهْرو أثارَ تعبئةً شعبيةً قوية للفلاحين وأعطى على نطاق واسع دفعًا جديدًا لحركة العصيان المدني. ففي يوم ميلاده الذي يصادف تاريخَ 14 تشرين الثاني/نوفمبر نُظِّمَت لقاءاتٌ في جميع أنحاء الهند واعتُقِلَ في ذلك اليوم ما يقاربُ 5000 شخص.
انكبَّ ناشطون وباحثون كُثر على إجراء دراسات حول ما أسموه "سياسات غاندي" و"اقتصاديات غاندي"، بيد أن قلة منهم طرحت الأسئلة التي ينبغي أن تُسأل فعلاً. كيف أنجز غاندي ما أنجزه في حياته؟ مِمَّ استمد قوته؟ كيف أمكن لمثل هذا الرجل العادي الضئيل البنية، المحامي المحدود الكفاءة والمُفتقِد إلى الهدف، أن يحوِّل نفسه إلى شخص قادر على الوقوف منفردًا ومنازلة أعظم إمبراطورية عرفها العالم، وأن ينتصر بدون إطلاق رصاصة واحدة؟ ذات مرة، سأل أحد الصحفيين الأمريكيين غاندي، وكان متابعًا لحركته لسنوات عدة ومن أشد المعجبين به: "هل لك أن تخبرني عن سر حياتك في ثلاثة كلمات؟" "أجل"، أجاب غاندي بضحكة خافتة. إذ لم يكن من خصاله التهرب من تحدٍ: "تنسَّك واستمتع!".
تجري في العالم المسيحي، في الوقت الراهن، حربان. صحيح أنَّ إحداهما قد انتهت، وأنَّ الأخرى لمَّا تنتهِ بعد، لكنهما اندلعتا في الوقت نفسه، وكان التضادُّ بينهما مذهلاً. إحداهما، التي انتهت الآن، كانت حربًا قديمةً ومتغطرسةً وغبيةً وعنيفةً وغير عصريةً ومتخلِّفةً ووثنية. إنها الحرب الإسبانية-الأمريكية التي، عبر قتل البشر وحسب، حلَّت مسألة: من سيحكم الآخرين، وكيف؟ أما الحرب الأخرى، التي مازالت مستمرة، والتي لن تنتهي إلا بانتهاء كل الحروب، فهي حرب حديثة، متفانية، قائمة فقط على المحبة والوعي، حربٌ مقدَّسة. إنها حربٌ على الحروب، أعلنها منذ زمنٍ بعيد (كما قال فيكتور هوغو في أحد المؤتمرات) القسم التقدمي الأفضل للعالم المسيحي ضد القسم الآخر، العنيف والمتوحش، لهذا العالم نفسه، والتي يخوضها بقوة ونجاح استثنائيين، في الآونة الأخيرة، ثلَّة من المسيحيين الدوخوبوريين القوقاز ضدَّ الحكومة الروسية الطاغية.
في العام 1976، كتبتُ قصيدة تحدثت فيها عن فتاة في الثانية عشر من عمرها – وهي واحدة من أناس القوارب الذين كانوا يعبرون خليج السيام. فتاة اغتصبها قرصان، فألقت بنفسها في البحر – (كما تحدثت) عن القرصان الذي وُلِد في قرية نائية محاذية للساحل في تايلاند، وعنِّي. وأنا لم أكن في الواقع على متن المركب – إنما كنتُ على بعد آلاف الأميال – لكن لأنّي كنتُ في حال انتباه، كنتُ على علم بما كان يجري في الخليج.
دخل الجيش الحر مدينة داريا بشكل علني وبزخم قوي في كانون الثاني 2012. ويُظهر فيديو نُشر على موقع youtube في 21 من الشهر المذكور، بعنوان (الجيش الحر يسيطر على داريا) أو (الجيش الحر في مدينة داريا لحماية المواطنين)، رتلاً من السيارات المدنية الصغيرة – بعضها من سيارات الأجرة المميزة بلونها الأصفر – يجوب شوارع داريا ليلاً، بسرعة كبيرة، وبداخل السيارات مقاتلون يرددون: الله أكبر، ويلوحون بالأسلحة الفردية وأعلام الثورة من شبابيك السيارات. كانت شوارع المدينة فارغة تمامًا من المارة، مما يشير إلى ساعة متأخرة من الليل، حيث اختار المقاتلون دخول البلدة الغافية. والمشهد بحركته وملامحه الاستعراضية ودلالاته العميقة، يحيل إلى هوة كبيرة تفصل بين فضاء المدينة: ناسها وتاريخها وحراكها السلمي المدني المتميز، وبين هذا الحدث الذي سيقلب أوضاع المدينة رأسًا على عقب. |
|
|