english

الـــــدَّالُّ

 

غياث المرزوق

 

تمهيد

يبحث هذا المقال في ماهية الدالّ the signifier على اعتباره وسيطًا ماديًّا، ومن ثمّ قابلاً للرصد، يسعى بغايته إلى تمثيل كينونة المُسْنَد إليه تمثيلاً مصيريًّا في نهاية المطاف، المسند إليه الذي تستبدُّ به شؤمًا سجايا التردُّد والانقسام والانسلاب في مستوى اللغة. سيبدأ المقال النقاش حول مفهوم ما يسميه لاكان بـ"الدالّ الأصلي (أو البدائي)" primordial signifier، الدالّ الذي يتمّ إدراكه واستيعابه وفقًا لإسنادات المَجاز الأبوي، وذلك لأن الدلالة القضيبية لهذا المجاز، على ما يبدو، تحتِّم تحتيمًا قَبْليًّا سائرَ أنواع الدلالات التي تدلّ عليها الدوالّ (المترتبة) في المسار اللاحق لعملية إنتاج المعنى. بعدئذٍ، سيستدعي المقال من جديد الفارقَ الحَيِّزي بين ما دُعي بـ"الدوالّ الدونَ-لغوية" extra-linguistic signifiers (تلك الدوالّ التي تبتعث دلالاتِها خارجَ اللغة) وبين ما أُطلق عليه بـ"الدوالّ الضمنَ-لغوية" intra-linguistic signifiers (تلك الدوالّ التي تسترسل دلالاتِها داخلَ اللغة)، وسيركز الاهتمامَ، من ثمّ، على سبر أغوار هذه الدوالّ الأخيرة. وهكذا، لدى عرض ما تتضمّنه ثنائية دو سوسور، "الدالّ-المدلول" signifier-signified، من مضامين محدّدة، تلك الثنائية التي يعلق لاكان عليها أهمية كبيرة في إطار منهجه في التحليل النفسي، سيضع المقال التوكيد على التشابه الجوهري غير المُلاحَظ بين دو سوسور وتعريفه لماهية الدالّ بوصفه "صورة سمعية" acoustic image وبين فرويد وتعريفه لماهية اللفظ بكونه "صورة صوتية" sound-image، وسيضع التشديد، بذلك، على التاريخ اللغوي المديد الذي يكمن وراء تلك الثنائية. وهكذا، أيضًا، سيورد المقال ما تقصده ثنائية دو سوسور الأخرى، "التعاقبي-التراتبي" syntagmatic-paradigmatic، من مقاصد معيّنة، تلك الثنائية التي يعلق لاكان عليها أهمية أكبر في إطار منهجه، وسيلقي الضوء على رأي دو سوسور القائل بأن اللغة نظامٌ تفاضليٌّ لدواليلَ signs ليس إلا، وأن الدالَّ لا يكتسب دلالته إلاّ من جراء علائقه التعاقبية و/أو التراتبية بغيره من الدوالّ. علاوة على ذلك، لدى شرح التضاد "البنيوي" بين كلّ من دو سوسور ولاكان في تحديد الوِضعة المنطقية لماهية الدالّ إزاء ماهية المدلول، سيضع المقال التوكيد على التضاد "المفهومي" بين كل منهما في تعيين الوِضعة النفسانية للماهية الأولى (أي الدالّ): ففي حين ينظر دو سوسور إلى الدالّ بوصفه حدًّا يمكن تقويضه نفسانيًّا لأنه يدلّ على شيء ما، ينظر إليه لاكان بكونه عنصرًا يستحيل تقويضه نفسانيًّا لأنه لا يدلّ على أي شيء في المَنْظِم الواقعي. بعدئذٍ، من خلال الإشارة إلى رأي لاكانَ القائل بأن اللغة نظامٌ تفاضليٌّ لدوالٍّ لها مدلولاتها، سيبيِّن المقال جزمَه على تمثيل الدالِّ لكينونة المسند إليه من أجل دالٍّ آخرَ، وذلك بمقتضى آليةِ ما يدعوه بـ"المتوالية الدالَّة" signifying chain، وسيبيِّن، كذلك، إصرارَه على كون المعنى في حالةٍ من التبدّل والتغيّر المتواصلين. وعلى فَرْض أن آلية المتوالية الدالَّة هذه تستتبع كلاًّ من "منطق" الكناية metonymy (استتباعًا تعاقبيًّا) و"منطق" الاستعارة metaphor (استتباعًا تراتبيًّا)، تينك الصورتين البلاغيتين اللتين استلهمهما لاكانُ من ثنائية دو سوسور الثالثة، "التزامني-التزمُّني" synchronic-diachronic، سيشرح المقال، إذن، عاملي التداعي الكِناوي والتداعي الاستعاري بالإشارة إلى دافعَي المحورين المتميّزين اللذين افترض يعقوبسون وجودَهما في سيرورة ما يُسمّى بالاستقلاب اللغوي، ألا وهما: المحور الاستئلافي combinatorial axis والمحور الاستبدالي substitutive axis، وسيشرح، من ثمّ، العواقبَ النفسانية "الوحيدة الجانب" لأعمال هذين المحورين في صيرورة ما يُدعى بالحُباس (أو الصُّمات) aphasia. إضافة إلى ذلك، سيتطرق المقال إلى الاختلاف الجوهري بين كل من لاكان ويعقوبسون في الموازاة المفهومية الدقيقة بين مصطلحي الكناية والاستعارة، الآنف ذكرهما، وبين مصطلحي الانزياح displacement والتكاثف condensation، على الترتيب، ذينك المصطلحين اللذين استخدمهما فرويد في سياق تنظيره حول عمل الحلم، تحديدًا. بعدئذٍ، سيوضِّح المقال ما توحي إليه ثنائية دو سوسور الرابعة، "اللغة-الكلام" langue-parole، من فحاو معيّنة، تلك الثنائية التي يعلق لاكان عليها الأهمية الأكبر في إطار منهجه، وذلك بإلقاء الضوء على التمييز الذي وضعه الأخير (أي لاكان) بين مفهومي اللغة langue واللسان langage لكي يؤسِّس، بدوره، ثنائيته المقابلة، "اللسان-الكلام"، كثنائية بديلة، ولكي ينحت، من ثمّ، المصطلحَ الجديد "اللالغة" lalangue، المصطلحَ الذي يشير إلى تلك الأشياء والأفكار التي يتعذر قولها وإبلاغها للآخر. إذ إن ما يرمي إليه لاكان من وراء تأسيس ثنائيته المقابلة هو إدلاؤه بحقيقةٍ مُفادُها بأن مكنون "اللسان"، لا مكنون "اللغة"، لهو الذي يمثِّل الأسلوبَ اللاواعي للوجود اللغوي على النقيض من مبثوث "الكلام" الذي يمثِّل الأسلوبَ الواعي لهذا الوجود. من هنا، يمكن إدراك فكرة انقسام المسند إليه، كسجيةٍ شؤمى، على أنه انقسامٌ بين مكنون "اللسان" ومبثوث "الكلام". أخيرًا، من جراء توفيقه (أي لاكان) بين كل من نهج فرويد في ماهية النفس ونهج دو سوسور في ماهية اللغة، سيناقش المقال المغزى من موضوعة لاكانَ الأكثر شهرة، تلك الموضوعة القائلة بأن "اللاوعيَ مبنيٌّ كبنيان اللغة"، وذلك بتسليط الضوء على أصول هذه الموضوعة في نهج فرويد، بالذات، وسياق تنظيره حول عمل الحلم، كذلك.

الشرح

كما تمّت مناقشته في مقال سابق[1]، يتجلى المسند إليه الشخصي، على خلاف كل من المسند إليه اللاشخصي والمسند إليه غير المعرَّف (أو غير المسمّى)، يتجلى كائنًا يعتريه تردّد متأصِّلٌ وينتابه انقسام أو انشطار راسخٌ بين أسلوبين نقيضين لتمثيل كينونته في الواقع: الأسلوب المُثبتِ لأناه "الشخصية" في البيان التصريحي statement، ذلك البيان الذي يتكشف عن ضمير المتكلم المفرد الواعي بحضوره، من طرف، والأسلوب المنفيِّ لأناه "الشخصية" في البيان التلفظي enunciation، ذلك البيان الذي ينطوي على ضمير المتكلم المفرد اللاواعي بغيابه، من طرف آخر. لهذا السبب، ينحو لاكان نحو تعريف "المُتغيِّر (الضميري)" (pronominal) shifter، من حيث منابه عن الشخص الناطق بلسان ضمير المتكلم المفرد "أنا"، بما يدعوه بـ"الدالّ القرائني" indexical signifier، وليس بما يُسمّى بـ"الرمز القرائني" indexical symbol، بحسب مفهوم يعقوبسون، لكي يسلط الضوء على فارق آخر ذي أهمية جلية بين البيان التلفظي، بوصفه مجموعة من القرائن، وبين البيان التصريحي، بكونه مجموعة من الدوالّ، في المقابل، وذلك استنادًا إلى عكسه المفهومي لمصطلح "القرينة" من جراء مغايرته بمصطلح "الدالّ"، لا بمصطلح "الرمز" في حدّ ذاته. وكما تمّ ذكره في المقال المشار إليه، أيضًا، فإن القصد من مصطلح "القرينة"، من الحيثية الدالولية (= السيمائية)، هو تأسيس علاقة التجاور بينها وبين المدلول عليه referent (فهو، من ثمّ، قصدٌ ينوِّه عن فكرة الدالول sign عند بيرس)، في حين أن الغرض من مصطلح "الرمز"، على النقيض من ذلك، هو ترسيخ علاقة اللاتجاور بينه وبين المدلول عليه (فهو، بذلك، غرضٌ يلمِّح إلى فكرة الدالول عند دو سوسور). يتبيّن، إذن، أن ما يحثّ لاكان على القلب المفهومي لمصطلح "القرينة" من خلال مباينته بمصطلح "الدالّ"، بادئ ذي بدءٍ، هو إلفات النظر إلى تمييز آخر ذي أهمية جلية، كذلك، بين وظيفة العَرَض باعتباره قرينة المرض الجسمي المحدّد في مجال الطب البشري، من جهة، وبين وظيفة العَرَض على اعتباره دالَّ المرض النفسي المعيّن، أو الدالّ العَرَضي عينه، في إطار التحليل النفسي، من جهة ثانية[2]. بيد أن ما يحضّ لاكان على القلب المفهومي ذاته، بصورة رئيسية، هو توكيده على حتمية مدى التردّد والانقسام بمدى فعل الكلام: المسند إليه كائنٌ متردّد ومنقسم بين ضمير المتكلم المفرد الواعي وبين ضمير المتكلم المفرد اللاواعي "بقدر ما يتكلم ليس إلا"[3]، وإصراره (أي لاكان)، من ثمّ، على تعيين مدى استمرارية العامل الوجودي بمدى انقطاعية العمل اللساني: "المسند إليه [كائنٌ] يحدّد وجودَه عن طريق سَدِّ أو صَدِّ ما ينطقه من دوالّ"[4]. وإن دلّ هذا التوكيد وهذا الإصرار على شيءٍ فإنهما يدلاّن على أن ثمّة انسلابًا واغترابًا يستحوذان على كينونة المسند إليه استحواذًا مستديمًا في مستوى اللغة، انسلابًا واغترابًا يُعْزَيان عَزْوًا مصيريًّا إلى ذلك التحوُّل النفساني الذي تخضع له الأنا (الشاهدة)، أصلاً، حينما "تدمج" نفسها (= "تتماهى") في أنا أخرى alter ego[5]. ووفقًا لذلك، فللدالّ القرائني، أو الدالّ، ببساطة، أن يميط اللثام عن كنون تلك السجايا النواحس (أي سجايا التردّد والانقسام والانسلاب) مثلما يكشف الزللُ، أو العمل الزالُّ parapraxis، النقابَ عن مكنون ما يقصده المسند إليه في الحقيقة، كزلاّت اللسان والأذن والقلم، إلخ. يعني ذلك أن مكنون ما يقصده المسند إليه في الحقيقة لمكنونٌ إن هو إلا بواطنُ (أو دفائن) الأحكام الصائبة، لا ظواهرُ (أو لوافظ) الأحكام الخاطئة، ذينك النوعين المتناقضين من الأحكام اللذين تمّت مناقشتهما في مقال سابق[6]، واللذين تمّ التوسّع فيهما في مقال سابق آخر[7]. وبالتالي، فإن المسند إليه لا يتبدّى في الوجود ككائن يجسّده فردٌ متفرِّدٌ ومتكامل وبَيِّنٌ على مستوى اللغة، بل يتبدّى في الوجود كائنًا منقسمًا وكائنًا لامتفرِّدًا وكائنًا ازدواجيًّا (أو متأرجحًا) وكائنًا يكتنفه مَهْمَهُ الألغاز في غير مظانّه وكائنًا يفضح الدالُّ بواطنه (أو دفائنه) شاء أم أبى، لمجرّد أن هذا الدالَّ يمثِّل كينونته كلما نطق بكلمة أو دلَّ على فكرة أو شيء.

يتضح ممّا تقدّم، إذن، أن التمثيلَ الوجوديَّ لكينونة المسند إليه عن طريق الدالِّ، بهذه المثابة، لتمثيلٌ يوحي إلى أن المسند إليه، حينما ينطق بكلمة أو يدلُّ على فكرة أو شيء، كان قد أدرك (دلالة) الدالِّ واستوعبها في مظانِّه دونما ريب. غير أن الدالَّ، كوسيطٍ مادّي في حدّ ذاته، لهو الذي يسعى بغايته إلى تمثيل كينونة المسند إليه، في آخر الأمر، على أنه كائنٌ منقسمٌ ولامتفرِّدٌ وازدواجيٌّ (أو متأرجحٌ)، كائنٌ يجسِّمه، في الأساس، "فردٌ" عُصابي neurotic، نظرًا لمقدرته على استقلاب ما يُعرف بـ"الدالّ الأصلي (أو البدائي)" primordial signifier، ليس إلا على النقيض من "الفرد" الذُّهاني psychotic الذي يتبدّى، والحال هذه، ككائن يفتقر إلى القدرة على استقلاب الدالّ الأصلي (أو البدائي) نفسه، ليس غير. وبحسب مفهوم لاكان، من هذا الخصوص، يظهر أن سيرورة استقلاب الدالّ الأصلي (أو البدائي)، أي سيرورة إدراكه واستيعابه، تتمّ بمقتضى تداعيات ما يُسمّى بـ"الدالَّة الوالدية" parental function، أو إسنادات ما يُدعى بـ"المجاز الأبوي" paternal metaphor، الدالَّة أو المجاز اللذين يستلزمان إحلالَ ترميز الاسمية الأبوية، أي حضور الأب كمَنْظِم اسمي ذكوري، محلَّ ترميز الرَّغَبية الأمومية، أي حضور الأم كمَنْظِم رَغَبي أنوثي. إذ تتجلى سيرورة الإحلال هذه بوصفها عملية انتقال نفساني إلى الموضع الأصلي (أو البدائي)، فحسب، الموضع الذي تعمد إلى "ترميزه، بادئ ذي بدء، عملية غياب الأم أو تغييبها [عن المَنْظِم الرَّغَبي الأنوثي]"[8]. من هذه الحيثية، إذن، فإن سيرورة استقلاب الدالّ الأصلي (أو البدائي)، الدالِّ الذي يتمثل في الترميز الذكوري للاسمية الأبوية، في حدّ ذاتها، أو الترميز الذكوري لـ"اسم-الأب" Nom-du-Père، على حدّ تعبير لاكان، لسيرورةٌ تشير إلى استقلاب أخلاقية التحظير الأبوي للصلات السفاحية incestual ties، إن بانت إرهاصاتها في الدور الأوديبي: إذ يتبيّن هذا الاستقلاب، على وجه المقارنة، من انتحال أخلاقية تحريم المدموج (= المتماهى به) السلطوي للصلات السفاحية نفسها، كما تمّ ذكره في مقال سابق[9]. لهذا السبب، عينه، فإن سائر أنواع الدلالات التي تدلّ عليها الدوالُّ (المترتبة) في المسار اللاحق لعملية إنتاج المعنى، لدلالاتٌ تحتِّمها تحتيمًا قَبْليًّا الدلالةُ القضيبية phallic signification التي تقترن بالدالّ الأصلي (أو البدائي)، سواء كانت هذه الدلالاتُ دلالاتٍ صريحة/حرفية أم دلالات ضمنية/مجازية. فإذا لم تحتبس سيرورة استقلاب الدالّ الأصلي (أو البدائي)، أي إذا تمّ إدراكه واستيعابه من طرف المسند إليه، فللبنية السريرية الناشئة، حينئذٍ، أن تكون دليلاً على حدوث اضطرابات العُصاب في الحالات المَرَضية-النفسية "السوية"، الحالات التي تنمّ عن حضور الدلالة القضيبية في ثنايا الجهاز النفساني. ولكن، إذا احتبست سيرورة استقلاب الدالّ الأصلي (أو البدائي) عينه، أي إذا لم يتمَّ إدراكه واستيعابه من لدن المسند إليه، فللبنية السريرية الناجمة، آنئذٍ، أن تكون برهانًا على وقوع اضطرابات الذُّهان في الحالات المَرَضية-النفسية "غير السوية"، الحالات التي تنطوي على غياب الدلالة القضيبية عن حنايا الجهاز النفساني ذاته. وهكذا، فإن الإرساءَ البَدَري لجبلّة العُصاب، في الحالات المَرَضية-النفسية "السوية"، ليس سوى عبارة تحليلية-نفسية عن الإرساخ البُداهي لسجيّة الانسلاب في مستوى اللغة، الإرساخ البُداهي الذي يعكس لحظة الوجود الأولى حين يدخل إبانها المسند إليه ضمن نطاق المَنْظِم الرمزي: إذ يحفِّز هذا الدخولَ، فيما يبدو، الترميزُ الذكوري للاسمية الأبوية، أو تأسيسُ اسمية الأب الرمزي the symbolic father على أساس استقلابية الدالّ الأصلي (أو البدائي). وبما أن الأحكامَ الخاطئة حصائلُ إجراءاتٍ مُلتبسةٍ وتدابيرَ وهميةٍ تلجأ إليها الأنا (الشاهدة) من طرفها لجوءًا قسريًّا، وأن الأحكامَ الصائبة نتائجُ إجراءاتٍ غير مُلتبسةٍ وتدابيرَ لاوهمية تتخذها الأنا الغائبة من لدنها اتخاذًا طوعيًّا، فإن انقسامَ المسند إليه الشخصي بين ضمير المتكلم المفرد الواعي في البيان التصريحي وبين ضمير المتكلم المفرد اللاواعي في البيان التلفظي، لتمكن ترجمته الآن إلى انقسام المسند إليه (الشخصي) بين عالم المدلولات في المَنْظِم الخيالي وبين عالم الدوالّ في المَنْظِم الرمزي، على الترتيب، بحيث يتجلى المَنْظِم الواقعي، فيما بين هذين المَنْظِمين، بوصفه مَنْظِمًا نقيضًا للأول ومقاومًا للأخير، مَنْظِمًا دامغًا استحالة القول الحقيقي، كأمر مَقضِيّ، نظرًا لزيفية المدلولات، قاطبةً، وسلبية الدوالّ، بأسرها، على حدٍّ سواء[10].

كما سبق ذكره في مقالين آخرين، ثمّة أنواعٌ ثلاثة من الدوالِّ متميّزةٌ، يمكن سَرْدها من جديدٍ، هنا، على أمل أن يسهم هذا السرد في إنعاش الذاكرة مرة أخرى. أولاً، ما سُمّي بـ"الدالّ المرآوي" the specular signifier؛ وثانيًا، ما دُعي بـ"الدالّ العَرَضي" the symptomatic signifier؛ وثالثًا، ما أطلق عليه اسم "الدالّ التَيْهاوي" the aporetic signifier [11].

فأما الدالّ المرآوي، من قبله، فيلمع إلى الصورة المقدَّسة للذات (الـ imago أو الأمَجية المرئية)، تلك الصورة التي يتمّ إشرابُها، بدئيًّا، تحت تأثير الدمج (= التماهي) الخيالي، لتدلَّ، والحال هذه، على التماهي بالصورة المقدَّسة للذات عينها، في طور المرآة. إذ يدرك المولودُ الإنساني (أو المسند إليه)، في هذا الطور، فيما يظهر، الشكلَ الأكثر أصلية (أو بدائية) لتحقُّق الذات المنعكس، ومن ثمّ يستوعبه استيعابًا يتهلَّل له قبولاً واستحسانًا على العكس من حالة المولود الحيواني (أو اللامسند إليه) الذي يمتعض من شكل تحقُّق الذات المنعكس، فيما يبدو، ويمُجُّه حين يرى صورته في المرآة للمرّة الأولى[12]. وفضلاً عن ذلك، يشكل هذا الاستقلابُ الأصلي (أو البدائي) لتحقُّق الذات المنعكس النواةَ لمِخاض الأنا المثالية the ideal ego بوصفها ماهية نفسانية في جَنينيّةٍ ناقصةِ النموّ تنوب منابَ صورةٍ مثاليةٍ يتمّ "إسقاؤها"، لاحقًا، تحت تأثير الإسقاط الخيالي، أي إسقاط الصورة المقدَّسة للذات نفسها. فيشكل هذا الإسقاط، بدوره، النواةَ لتمخُّض المثال الأنوي the ego-ideal بوصفه ماهية نفسانية في جَنينيّةٍ أكثر نموًّا تقوم مقامَ دالٍّ مثالي يتمّ إنماؤه، بعدئذٍ، تحت تأثير الإشراب الرمزي (انظر الحاشية: 10)[13]. وهكذا، فإن الصورة المقدَّسة للذات ذاتها تسعى إلى حَقْن "دلالتها" بين جنبَي الدالّ المرآوي، إن صحّ القول، في المسار "السويّ" لعملية التطوّر الأنوي (المبكر).

وأما الدالّ العَرَضي، من طرفه، فيوحي إلى تلك السمة الخاصة المُفرَدة التي يدركها الدامج (= المتماهي) ويستوعبها كسمةٍ خاصة مُفردة من سمات المدموج (= المتماهى به)، في أثناءَ تخلُّل العكس الفعلي لعقدة أوديب، كما هي الحال في البنت الصغيرة التي كانت تقلِّد إصابة أمِّها بالسعال المبرِّح تقليدًا إراديًّا، أو في البنت الشابة دورا التي كانت تحاكي إصابة أبيها بالنزلة الشُّعَبية المعذِّبة محاكاةً "لاإرادية". إذ يجري النظر إلى السمة الخاصة المُفرَدة هذه باعتبارها دالاًّ له مدلوله، وذلك بمقتضى محلِّه كعنصر في نظام تفاضلي لدوالٍّ لها مدلولاتها، كذلك، دالاًّ يتمّ إشرابه، بعد حين، تحت تأثير الدمج (= التماهي) الرمزي ليدلَّ، في النهاية، على التماهي بالعَرَض في طور ما بعد المرآة – خلافًا للتماهي بالصورة المقدَّسة للذات. من هنا، يتبدّى العَرَضُ كسمةٍ خاصة مُفردة تميل إلى إقحام "دلالتها" بين جنبَي الدالّ العَرَضي ولكن في المسار "غير السويّ" لعملية التطوّر الأنوي (اللاحق) [14].

وأما الدالّ التَيْهاوي، من لدنه، فيشير إلى أيٍّ من الحركتين المُرْجَأتين في توكيدية اليقين المُرْتَقَب، حركةِ التردُّد التخييري disjunctive hesitation وحركةِ التردُّد التعطيفي conjunctive hesitation، تينك الحركتين اللتين تمكِّنان المسندَ إليه من معرفة نسبة ذاتية مجهولة، أو عَزْو ذاتي مجهول، في حضور مسندٍ إليهما اثنين آخَرَيْن (كعدد نموذجي)، مسندٍ إليهما يُوقَنُ أنهما يبديان للعيان نسبة مماثلة، أو عَزْوًا مماثلاً، من ناحية، وفي غياب مسندٍ إليهما اثنين آخَرَيْن (كعدد مساوٍ ومعلوم مسبقًا)، مسندٍ إليهما يُظنُّ أنهما يبديان للعيان نسبة مغايرة، أو عَزْوًا مغايرًا، من ناحية أخرى. إذ تتجلى هاتان الحركتان المُرْجَأتان، فيما يظهر، بوصفهما مقدمتين من مقدمات تلك المسألة المنطقية التي تمّ طرحها كمغالطة جديدة، والتي جرى تمثيلها بسجناءَ ثلاثةٍ يُثبَّت بين كتفي كلٍّ منهم قرصٌ أبيض، بحيث يُعمَد إلى اختيار الأقراص الثلاثة هذه من بين أقراص خمسة متماثلة لا تختلف عن بعضها البعض إلا باللون (ثلاثة بيضاء واثنين أسودين). وعلى ذلك، فإن كلاًّ من الحركتين المُرْجَأتين تينك تنزع إلى دَمْغ "دلالتها" بين جنبَي الدالّ التَيْهاوي ليُصارَ إلى استقلابه كنقطةٍ عمياءَ blind spot، بمفهومها البَصَري، وذلك لأن الاستدلال الصحيح الذي استدلّ به المسندُ إليه لم يتمَّ بناؤه على أساس ما كان يراه فعلاً (أي القرصين الأبيضين)، بل تمّ بناؤه على أساس ما لم يكن يراه في الحقيقة (أي القرصين الأسودين)[15].

يتبيّن من هذا السرد، إذن، أن الأنواع الثلاثة من الدوالّ هذه، بأجمعها، تميل إلى تأدية أعمالها النفسانية، فيما يبدو، خارجَ النطاق المحدّد لتداعيات اللغة، سواء تمّ استقلابُ الدالِّ كصورة مقدَّسة للذات، في حالة الدالّ المرآوي، أم كسمة خاصة مُفرَدة، في حالة الدالّ العَرَضي، أم كحركة تردُّدٍ مُرْجَأةٍ، في حالة الدالّ التيهاوي. لهذا السبب، دون سواه، عُمِد في مقال سابق إلى تصنيف الأنواع الثلاثة من الدوالّ تلك، بمجملها، تحت ما سُمِّي، آنئذٍ، بـ"الدوالّ الدُونَ-لغوية" extra-linguistic signifiers[16]، بالأخصّ حين يبرز الحيِّز اللغوي بوصفه عَتَبة (وسائطية) لترميز العالم الباطني، تلك العتبة التي يقترن فيها جزءٌ من التجلي اللبيدي بجزءٍ مقابل من التجلي الأنوي اقترانًا ليصل إلى مستوى "تمثيل الشيء"، أي التمثيل النفساني للعالم الظاهري. غير أن عملية التمثُّل "الدلالي" لكلٍّ من الدوالّ الدون-لغوية هذه لا تستمدّ أدواتِها من عتبة منفصلة انفصالاً تامًّا عن عتبة الترميز اللغوي، في حدّ ذاته، نظرًا للطبيعة التداخلية التي تتميّز بها المناظمُ، أو المَدْوَناتُ، الأساسية الثلاثة في سيرورة العمل الذهني، كما سبق ذكره (انظر، أيضًا، الحاشية: 10). وعلى النقيض من الدوالّ الدون-لغوية تلك، إذن، فإن ما تمكن تسميته الآن بـ"الدوالّ الضمنَ-لغوية" intra-linguistic signifiers ليوحي إلى أيٍّ من الدوالّ التي تسعى لتأدية أعمالها النفسانية، مهما تكن، داخلَ النطاق المحدّد لتداعيات اللغة، كالدوالّ التي تتمثل تمثُّلاً بنيويًّا في الصيغة الاسمية أو الصيغة الضميرية أو الصيغة الفعلية أو الصيغة الظرفية أو الصيغة النعتية، أو غيرها من الصيغ الكلامية، بحيث إن الدالَّ الأصلي (أو البدائي) المُشار إليه آنفًا يتجسَّد، بدلالته القضيبية، على أنه الجدُّ "الأسطوريُّ" للدوالّ الضمن-لغوية برمّتها[17]. من هنا، يكشف هذا الفارق الحَيِّزي بين الدوالّ النقابَ عن الثنائية الشهيرة، "الدالّ-المدلول" signifier-signified، تلك الثنائية التي يطرحها دو سوسور في إطار منهجه في التحليل البنيوي، والتي يعلق لاكان عليها أهمية كبيرة في إطار منهجه في التحليل النفسي، ولكن من خلال لجوئه إلى القلب المفهومي الصريح لها، كما سيتمّ تفصيله بعد قليل. وعلى حسب منظومة دو سوسور، من هذا الخصوص، تتجلى اللغة (الإنسانية) كمتَّصل يعكس بحدّ ذاته، أو كسيرورةٍ تعكس بحدّ ذاتها، نظامًا تفاضليًّا لدواليلَ لغويةٍ linguistic signs، إذ يقوم كلٌّ من هذه الدواليل على مقوِّمين جوهريين متباينين، هما: المقوِّم المادّي أو الإحساسي الذي يحدّد الدالّ، من طرف، والمقوِّم المعنوي أو الإدراكي الذي يعيّن المدلول، من طرف آخر. ومن هنا، أيضًا، ينظر دو سوسور إلى ماهية الدالّ الذي يحدّده المقوِّم المادّي أو الإحساسي باعتباره، قبل كلّ شيء، "صورة سمعية" acoustic image، صورةً تقيم علاقة اعتباطية بينها وبين ماهية المدلول الذي يعيّنه المقوِّم المعنوي أو الإدراكي. فهو (أي دو سوسور)، بذلك، يدحض سائرَ النظريات التخمينية التي جاء بها فقهاءُ اللغة (الفيلولوجيون) قبل بزوغ اللسانيات الحديثة، والتي حاولت أن تفسِّر أصل اللغة، كظاهرة إنسانية، بالاستناد إلى ما هو معروف بـ"حكاية الصوت" أو "المحاكاة الصوتية" onomatopoeia، بمعنى أن ثمّة رابطًا جناسيًّا-صوتيًّا نظاميًّا يربط بين ماهيتي الدالّ والمدلول. فعلى سبيل التمثيل، لا الحصر، ليس يوجد ثمّة، من قريب أو بعيد، أيُّ رابطٍ جناسي-صوتي نظامي يمكن استشفافه من كلمة fouet (= السوط أو السائط) في اللغة الفرنسية أو من كلمة fagus (= الزَّان أو المُرَّان) في اللغة اللاتينية، مع أن الكلمة الأولى، كدالٍّ له مدلوله، تمّ اشتقاقها في القرن الثاني عشر من الكلمة الأخيرة، كدالٍّ له مدلوله، كذلك[18]. وبناءً على ذلك، فإن مفهمومَ دو سوسور عن ماهية الدالّ، من هذه الزاوية، لجِدُّ قابل للمقارنة بمفهوم فرويد عن ماهية اللفظ في مستوى تمثيل الكلمة، ذلك المستوى الذي "تمثّل فيه الصورةُ الصوتية sound-image [هيئةَ] الكلمة"، كما "تمثّل [الصورةُ] المرئية visual image [هيئةَ] الشيء" بالمثابة ذاتها في مستوى تمثيل الشيء[19]. يدلّ ذلك على أن العلاقة التي تنشأ بين اللفظ بوصفه صورة صوتية (قا: الدالّ بوصفه صورة سمعية) وبين المعنى بكونه صورة ذهنية (قا: المدلول بكونه صورة عقلية)، لعلاقةٌ جُزافية، كذلك (قا: اعتباطية). لهذا السبب، عينه، يمكن القول بأن "الأنا (الشاهدة) ترتدي قَلَنْسُوةً للسمع Hörkappe"، ولهذا السبب، فضلاً عن ذلك، "يمكن القول بأنها ترتديها ارتداءً موروبًا"، على حدّ تعبير فرويد[20]. إذا كان لاكان نفسُه على بيِّنةٍ من هذا التشابه اللافت بين مفهومي دو سوسور وفرويد ولا ريب ألا يفوت تشابهٌ كهذا قارئًا نهيمًا ومُوَسْوَسًا بدقائق الأمور من أمثال لاكان ، فللتعبير المَجازي، عندئذٍ، أن يبيّن، إن جازَ المَجازُ، كيف أن ضمير المتكلم المفرد الواعي في البيان التصريحي (أي الشخص الناطق بلسان ضمير المتكلم المفرد "أنا"، كما سبق ذكره) لن يصدر حكمًا خاطئًا حينما يسخِّر تاءَ الفاعل المتحرِّكة ويعلن:

(أنا) قلت إنّ لاكانَ قد يكون مِخاضًا عن فرويد ودو سوسور.

ناهيك، بطبيعة الحال، عن أن التاريخ الفعلي لتنظير فرويد حول تمثيل الكلمة يعود إلى الأيام المبكرة من تأليف كتابه تفسير الأحلام[21]، أو يعود حتى إلى يوم أبكر حين أرسل برسالة إلى صديقه، طبيب الأذن والحنجرة فيلهيلم فليس (1858-1928)، في العام 1896[22]. وبالتالي، يتضح، من خلال النظر إلى الثنائية التقليدية "الشكل-المضمون" (أو "العبارة-الكنْه" expression-substance) وإلى طارئيّتها (أو عُرْفانيّتها conventionality)، يتضح أن الثنائية الحديثة المظهر "الدالّ-المدلول" (أو "المبنى-المعنى" sound-meaning)، باعتباطيّتها (أو جُزافيّتها fortuity)، ليس لها أن تُعْزى إلى دو سوسور ولا إلى فرويد عزوًا قصريًّا، وذلك لأن الأساس المنطقي الذي تنبني عليه الثنائية الحديثة المظهر هذه لقديمُ العهدِ، فيما يظهر، كقِدم التفكير الفلسفي بماهية اللغة ذاتها.

بيد أن ما يتّسم بسمة الأصالة في منهج دو سوسور في التحليل البنيوي، على ما يبدو، هو أن المدلول (أو المعنى)، بوجه العموم، لايتمّ اشتقاقه اشتقاقًا سَبْقيًّا من "واقع" إنساني أو إلهي مسلّم به، واقع يرتدي رداءَ التجربة ثمّ يمضي ليثبتَ وجودَه خارج اللغة كمتّصل أو كسيرورة، بل يتمّ إحداثه (أو، بالحري، توليده) داخل اللغة بوصفها نظامًا تفاضليًّا بمحض صوريّته formalism أو شكلانيته formality، نظامًا تفاضليًّا صِرْفًا لحدودٍ يختلف كلٌّ منها اختلافًا صوريًّا أو شكلانيًّا عن الآخَر، ليس إلا. ووفقًا لذلك، يدلي دو سوسور بقوله الذي تمّ الاستشهاد به في أحايين كثيرة، بأن "اللغة [كنظام تفاضلي] ليس ثمة فيها سوى اختلافاتٍ دونما حدودٌ إيجابية"[23]. وعلى فَرْض أن العلاقة التي تحدث بين الدالّ (أو المبنى) والمدلول (أو المعنى) لعلاقة اعتباطية (أو جُزافية)، فإن أية متتالية series من أمثلة الدالّ المحسوسة، إذن، لهي الماهيات اللغوية التي يمكن اعتبارُها حدودًا إيجابية، فيما يظهر، وذلك بفضل ترتيبيّتها الطبيعية الكامنة. لهذا السبب، يمكن إدراك سمة الأصالة في منهج دو سوسور في التحليل البنيوي، كذلك، من رأيه القائل بأن الدالّ لا يقيم علاقة من العلائق بينه وبين المدلول، أيًّا كان نوعها، وذلك بمقتضى الطبيعة الاعتباطية أو الجُزافية لهذه العلاقة، في المقام الأولي، حتى لو تبدّى المدلول بكونه القسيمَ النفساني للمدلول عليه referent. خلافًا لذلك، يميل الدالّ إلى إبداء إيجابيّته من خلال العلاقة (أو العلائق) التي ينشئها مع سواه من الدوالّ، لا مع المدلول، في إطار النظام التفاضلي للغة: إذ ينزع الإنشاء الاقتراني، من هذا المنظور، إلى تجسيد ما يُسمّى بـ"الطابع التعاقبي" تجسيدًا صريحًا و/أو إلى تجسيم نقيضه، "الطابع التراتبي"، تجسيمًا ضمنيًّا[24]. من هنا، أيضًا، يميط هذا الإنشاءُ الاقتراني اللثامَ عن الثنائية الشهيرة الأخرى، "التعاقبي-التراتبي" syntagmatic-paradigmatic، تلك الثنائية التي يطرحها دو سوسور في إطار منهجه في التحليل البنيوي، والتي يعلق لاكان عليها أهمية أكبر في إطار منهجه في التحليل النفسي، كذلك. وتبعًا لذلك، فإن مفهومَ دو سوسور عن ماهية الدالّ باعتباره "صورة سمعية" (أو "صورة صوتية"، بحسب مفهوم فرويد) ليمكن الآن إدراكه على أنه حدٌّ لا يكتسب دلالته، أو "مدلوله"، إلا من جرّاء العلائق التعاقبية و/أو التراتبية التي يؤسِّسها مع غيره من الدوالّ. وذلك لأن ما يُدعى بـ"الواقع"، في أية لغة من اللغات الإنسانية، ليس، في حقيقة الأمر، سوى مبتنىً من المبتنيات اصطنعته يدٌ بيضاءُ اصطناعًا قبليًّا، يدٌ بيضاءُ من أيادي اللغة التي يتمّ استخدامُها من أجل وصف هذا "الواقع". فمن طرف، يجري النظر إلى أسلوب الدلالة التعاقبي على أنه أسلوبٌ يعمل عملاً أفقيًّا في إطار متتاليةٍ منتهيةٍ من الروابط التفاضلية التي تنشأ بين دوالٍّ متجاورة contiguous signifiers بتجسيدها الصريح. ففي الجملة التالية، على سبيل المثال:

نظم الفقير ديوانًا في كوخه.

فإن الصيغة الفعلية (الطوعية) "نظم" ترتبط ارتباطًا تقديميًّا بالصيغة الاسمية (الحياتية) "الفقير" التي تتبعها؛ وإن الصيغة الاسمية (الجمادية) "ديوانًا" تتصل اتصالاً تأخيريًّا بالصيغة الاسمية (الحياتية) "الفقير" التي تسبقها؛ وهكذا دواليك. ومن طرف آخر، يتمّ النظر إلى أسلوب الدلالة التراتبي على أنه أسلوبٌ يعمل عملاً رأسيًّا أو عموديًّا، بدلاً من ذلك، في إطار متتاليةٍ لامنتهيةٍ (كمونيًّا) من الروابط التفاضلية التي تحدث بين دوالٍّ لامتجاورة discontiguous signifiers. ففي الجملة ذاتها، على سبيل المثال، فإن الصيغة الفعلية (الطوعية) "نظم" تكتسب دلالتها، أو "مدلولها"، بفضل تباينها الوقعي (أو الفونيمي) مع دوالٍّ لامتجاورة بتجسيمها الضمني، دوالٍّ تنتمي إلى الصيغة الكلامية نفسها في كلاّنية النظام اللغوي. وهكذا، فإن الدالّ الأول (د1) لهو الصيغة الفعلية (الطوعية) "نظم"، لا الصيغة الفعلية (القسرية) "سَنَّ"، ولا الصيغة الفعلية (البقائية) "مضغ"؛ وإن الدالّ الثاني (د2) لهو الصيغة الاسمية (الحياتية) "الفقير"، لا الصيغة الاسمية (الحياتية) "الرئيس"، ولا الصيغة الاسمية (الحياتية) "الكلب"؛ وإن الدالّ الثالث (د3) لهو الصيغة الاسمية (الجمادية) "ديوانًا"، لا الصيغة الاسمية (الجمادية) "قانونًا"، ولا الصيغة الاسمية (الجمادية) "عظمًا"؛ وهلمّ جرًّا. وتستمرّ هذه المتتالية اللامنتهية (كمونيًّا) إلى أن تبلغ ذلك المستوى التعبيري الذي تتحقّق فيه الدلالة الخاصة للجملة المعنية برمّتها، وإلى أن تتجلى هذه الجملة بتغايرها الدلالي مع كلّ من الجملتين الآتيتين، على سبيل التمثيل، أو مع أية جملة أخرى، في نهاية المطاف، جملةٍ تنقل للسامع (أو القارئ) فكرةَ فعل شيءٍ ما في مكان ينتمي إلى القائم بهذا الفعل:

سَنّ الرئيس قانونًا في قصره.

مضغ الكلب عظمًا في وجاره.

يتضح من الثنائية "التعاقبي-التراتبي" هذه، إذن، أن دو سوسور، في إطار منهجه في التحليل البنيوي، يمنح كلاًّ من الدالّ والمدلول مرتبة تتناظر بأهميتها مع الأخرى في نوع من أنواع الحضور الأبدي، أو في حضور خِلو من الزمن. فلا فرقَ منطقيًّا، والحال هذه، بين الثنائيتين "الدالّ-المدلول" و"المدلول-الدالّ" ما دام نوع الحضور هذا لا يُبْليه كَرُّ الزمن، وما دامت العلاقة الاعتباطية أو الجُزافية التي تربط بين الماهيتين تمثل تعاضدًا مشترَكًا واتحادًا لا يمكن تفكيكه، كما يتحتّم إدراكها الآن. وهكذا، من جرّاء القلب "البنيوي" السافر لهاتين المرتبتين المتناظرتين، من حيث الأهمية، يضع لاكان، في إطار منهجه في التحليل النفسي، التوكيدَ على أسبقية الدالّ وسيادته المنطقية على المدلول في شكل من أشكال الحضور اللاأبدي، أو في غياب مفعَم بالزمن، إن صحّ القول. فهو (أي لاكان)، بذلك، يعمد عمدًا إلى ترسيخ حائل لا يتزحزح بين الماهيتين، من جهة، ويعمد من ثمّ إلى تفسيخ تعاضدهما وتفكيك اتحادهما، من جهة ثانية. وثمّة فارقٌ منطقيٌّ، والحالة هذه، بين الثنائيتين "الدالّ-المدلول" و"المدلول-الدالّ" ما دام شكل "الحضور" هذا يُبْليه كَرُّ الزمن، وما دامت العلاقة الاعتباطية أو الجُزافية التي تربط بين الماهيتين تحكمها مصادفة تاريخية تحِلّ محلها مصادفة تاريخية أخرى. من هذه الحيثية، إذن، يسعى لاكان، فيما يبدو، إلى تحرير الدالّ من رِبْق أيّ وثاق راسخ أو جامد غير قابل للنمو يصل بينه وبين المدلول، كما هي الحال في الدالول اللغوي المشار إليه قبل قليل، وذلك لأن المدلولَ، في حدّ ذاته، لمقوِّمٌ معنوي أو إدراكي إن هو إلا مجرّد نتاج من نتاجات الدالّ المتعدّدة، الدالّ الذي يؤدّي دور المقوِّم المادّي أو الإحساسي لسيرورة البثّ في كلاّنية النظام اللغوي. من هنا، من هذا التضادّ البنيوي الصارخ بين كلّ من دو سوسور ولاكان في تحديد الوِضعة المنطقية لماهية الدالّ إزاء ماهية المدلول، يمكن، كذلك، استشفاف التضادّ المفهومي الكامن بين كلّ منهما في تعيين الوِضعة النفسانية للماهية الأولى (أي الدالّ) اشتشفافًا أكثر جلاء: ففي حين أن الدالّ السوسوريَّ يتجسّد بصفته حدًّا قابلاً للتقوُّض النفساني لأنه يدلّ على شيء ما في أية لحظة من لحظات التقوُّل، يتجسّم الدالّ اللاكانيُّ باعتباره عنصرًا غير قابل للتقوُّض النفساني لأنه لا يدلّ على أي شيء في لحظة التقوُّل ذاتها، نظرًا لاستحالة القول الحقيقي استحالة مصيرية في المَنْظِم الواقعي ذاته، كما تمّ ذكره آنفًا (انظر الحاشية: 10). ومن هنا، أيضًا، يقول لاكان:

إن كلَّ دالٍّ حقيقي أو واقعي هو، في حدّ ذاته، دالٌٌّ لا يدلّ على أي شيء. فكلما افتقر الدالّ إلى الدلالة على الشيء، (كلما) اشتدّت مقاوِميّته للتقوُّض [النفساني][25].

ولكن، إذا دلّ الدالّ على شيء يعكس مقصوديّته الواقعية عكسًا مباشرًا، فليس لهذه الدلالة، عندئذٍ، سوى أن تتطابق مع ما تدلّ عليه الرغبة الحقيقية true desire التي يكنّها المسند إليه في مستوى اللاوعي (أي ضمير المتكلم المفرد اللاواعي بغيابه)، وليس لها، من ثمّ، سوى أن تبقى خفيّةً من خفاياه في مستوى الوعي (أي ضمير المتكلم المفرد الواعي بحضوره). إلا أن هذه الخفيّة، أو الأحجية اللامرئية، لجدُّ قابلةٍ للاستقراء، وإن كان استقراءً جدَّ عسير، من عددٍ معيّن من تجليات اللاوعي، كالأحلام والدُّعابات والأعمال الزالّة والأعراض المَرَضية-النفسية، وما شابه ذلك. ناهيك بأن الدلالة الرَّغَبية أو المِنْيَوية المقصودة لدلالةٌ تحتِّمها تحتيمًا قَبْليًّا الدلالةُ القضيبية التي تقترن بالدالّ الأصلي (أو البدائي)، كما سبق ذكره (انظر، أيضًا، الحاشية: 17). وهكذا، فيما يظهر، فإن مفهوم دو سوسور عن اللغة بوصفها نظامًا تفاضليًّا يخضع الآن لشكل من أشكال الاختزال التصوُّري، بحسب مفهوم لاكان، فيتمّ بذلك قصْر النظام التفاضلي على ماهية الدالّ، بحدّ ذاته، لا على ماهية الدالول بكونه ائتلافًا بين ماهيتي الدالّ والمدلول. يعني ذلك أن ماهية الدالّ تسعى إلى تمثيل كينونة المسند إليه من أجل دالٍّ آخرَ في كنف متواليةٍ دالّةٍ signifying chain لا تنتهي على النقيض من ماهية الدالول الذي يعمد إلى تمثيل شيء ما من أجل شخص ما. وفي هذا الصدد، يجزم لاكان بقوله:

إن أيَّة بؤرةٍ تتركز فيها الدواليل، بقدر ما تمثل شيئًا من الأشياء، يمكن اعتبارها بؤرةً [تتمثل] من أجل شخص من الأشخاص. إذ إن ما يجب توكيده، بادئ ذي بدء، هو أن الدالّ لهو ذلك [المكوِّن] الذي يمثل [كينونة] المسند إليه من أجل دالّ آخر[26].

علاوة على ذلك، تتجلى المتوالية الدالّة اللامتناهية من الدوالّ هذه بوصفها تعبيرًا مباشرًا عن الغياب المستديم (أو العازة المستديمة constant lack، بالحري) لأية دلالة ثابتة أو راسخة في مستوى الوعي، من ناحية، وتتبدّى بكونها تعبيرًا غير مباشر عن اللاإشباع الأبدي للرغبة الحقيقية التي يكنّها المسند إليه في مستوى اللاوعي، من ناحية أخرى. وإن دلّ هذا اللاإشباع الأبدي وذاك الغياب المستديم (أو العازة المستديمة) على شيء فإنهما يدلاّن على إصرار لاكان العنيد على رأي يعود تاريخه إلى أكثر من ألفيّتين ونصف، ذلك الرأي القائل بأن المعنى في حالةٍ من التبدّل والتغيّر المتواصلين[27]. وهكذا، وباستثناء أسماء العلم التي لا تنحو نحو تبديل "معانيها"، أو تغيير "مدلولاتها"، في أية لحظة من لحظات التقوُّل، فإن المتوالية الدالّة اللامتناهية من الدوالّ تلك لمتواليةٌ تبدي للعيان، فيما يبدو، مَيَلانًا غامضًا نحو ما هو معروف بـ"الاستقلاب اللغوي" language processing، وذلك استنادًا إلى كلّ من "منطق" الكناية metonymy و"منطق" الاستعارة metaphor، فتستتبع بذلك كلاًّ من منطق المُتعاقِبات syntagmas ومنطق المُتراتِبات paradigmas، بحسب مفهوم دو سوسور، على الترتيب.

فيما يتعلق بـ"منطق" الكناية metonymy، من طرف، فإن هذه الصورة البلاغية (أو البيانية) تعمل عملاً تعاقبيًّا (أو أفقيًّا) لكي تقرن بين مصفوفة من دالّين لاواعيين، أو أكثر، دالّين قد يختلفان عن بعضهما البعض اختلافًا صريحًا، بحيث تخضع سيرورة الإقران الناجمة لقوانين التجاور contiguity التعاقبي (أو الأفقي). وبالتصاحب مع أثر المتوالية الدالّة اللامتناهية من الدوالّ التي أشيرَ إليها آنفًا، يسعى "منطق" الكناية، كما يراه لاكان، إلى تمثيل حركة تزامنية synchronic (أو مع-زمنيةٍ، حرفيًّا)، والحال هذه، حركة "لامتواترة" تسير من دالّ لاواع إلى دالّ لاواع آخرَ دونما انقطاع. فتوحي هذه الحركة التزامنية، بذلك، إلى أن الدلالةَ التي تحتمها تحتيمًا قبليًّا الدلالةُ القضيبية للدالّ الأصلي (أو البدائي)، المُشار إليه آنفًا، لدلالةٌ مُرْجأة إرجاء اطراديًّا لا محال. وبما أن بنية الرغبة (الحقيقية) هي، في حدّ ذاتها ومن تلقاء ذاتها، بنية كِناوية في مستوى اللاوعي[28]، فمن الجلي، إذن، أن يتطابق فحوى اللاإشباع الأبدي للرغبة (الحقيقية) التي يكنّها المسند إليه، كما تمّ ذكره قبل قليل، مع مغزى الإرجاء الاطرادي للدلالة، ذلك الإرجاء الذي توحي إليه الحركة التزامنية في المستوى ذاته. وكصورة بلاغية (أو بيانية)، في أية لغة من اللغات الإنسانية، فإن "منطق" الكناية، حسبما يعنيه المصطلح بحرفيته (قا: كنا/كنى فلان بالشيء، أي ذكره ليدلّ به على غيره)، يشير إلى ذلك الإجراء "التبديلي" أو "التغييري" الذي يتمّ به إحلال الاسم الاعتيادي لجامد من الجوامد، أو حيٍّ من الأحياء، محلَّ الاسم الاعتيادي لجامد آخر، أو حيٍّ آخر، له مِساسٌ به، شريطة أن يجسِّد الجامدُ أو الحيُّ "الحالُّ" عَزْوًا خاصًّا، وأن يجسِّم الجامدُ أو الحيُّ "المحلول" عَزْوًا عامًّا في المقام اللااستثنائي (مثلاً، يُكْنى بكلمة "الشراع" للدلالة بها على "السفينة" ويُكْنى بكلمة "المنصّة" للدلالة بها على "المسرح"، وهكذا دواليك). ففي هذا المقام اللااستثنائي، إذن، فإن مصطلح الكناية لجِدُّ قابل للمقارنة بمصطلح المجاز المُرْسَل synecdoche بوصفه صورة بلاغية (أو بيانية) أخرى، صورة تقتضي ضمنًا الإجراء "التبديلي" أو "التغييري" ذاته، خلا أن الجامد أو الحيّ "الحالَّ" يُبدي عَزْوًا جزئيًّا، وأن الجامد أو الحيّ "المحلولَ" يُظهر عَزْوًا كليًّا، والعكس بالعكس (مثلاً، يُجاز بكلمة "العين" للدلالة بها على "الرقيب" ويُجاز بكلمة "الإصبع" للدلالة بها على "الأنملة"، وهلمّ جرًّا). من هنا، يمكن استكناه قوانين التجاور التعاقبي (أو الأفقي) استكناهًا أكثر وضوحًا، وخصوصًا فيما يتعلق بمسنون بنية الرغبة (الحقيقية): فكما أن كلمة "الشراع"، بعَزْوها الخاصّ، تقيم علاقة كِناوية بينها وبين كلمة "السفينة"، بعَزْوها العامّ (أي أن المَكْنِيَّ به والمَكْنِيَّ عنه متجاوران تجاورًا بيِّنًا ولكنهما مختلفان اختلافًا صريحًا)، فإن بنية الرغبة (الحقيقية)، كذلك، تملي على دالّ لاواع ما أن ينشئ صلة كِناوية بينه وبين دالّ لاواع آخرَ دون أن يكون الدالاّن المقصودان متوقِّفين، بالضرورة، على أي شَبَه وَقْعي (فونيمي) أو أي شَبَه دلالي. يعني ذلك، بعبارة أخرى، أن صفة "الكِناوية" التي أضفيت على بنية الرغبة (الحقيقية) لتستدعي غيابَ أية رابطة ثابتة أو راسخة قابلة للتنبُّؤ بين كُنْه الرغبة بكونه كُنْهًا راغبًا وبين كائن الرغبة بكونه كائنًا مرغوبًا فيه خلافًا للرابط الذي يربط بين كُنْه الحاجة need بكونه كُنْهًا حائجًا وبين كائن الحاجة بكونه كائنًا مَحُوجًا إليه، فهو رابط ثابتٌ وراسخٌ وجِدُّ قابل للتنبُّؤ، والحال هذه، نظرًا لجعله تحت "رحمةِ" حتميةٍ بيولوجية محض، ليس إلا. وبالتالي، يظهر أن مصطلح الكناية، بما يقتضيه من خصائص الاختلاف الصريح وقوانين التجاور التعاقبي (أو الأفقي)، يظهر أنه، في كتابات لاكان، ليس سوى مصطلح بديل لمفهوم فرويد عمّا يسمّيه بـ"الانزياح" displacement في سياق تنظيره حول عمل الحلم، تحديدًا: إذ يتجلى هذا الانزياح كآلية تميل من خلالها صورةٌ حلمية ما إلى ترميز صورة حلمية أخرى تليها تُلُوًّا، على الرغم من أن الصورتين الحلميتين المعنيّتين نائيتان كلّ النأي عن بعضهما البعض[29].

وفيما يتصل بـ"منطق" الاستعارة metaphor، من طرف آخر، فإن هذه الصورة البلاغية (أو البيانية) تعمل عملاً تراتبيًّا (أو رأسيًّا/عموديًّا) لكي تؤلف بين مصفوفة من دالّين لاواعيين، أو أكثر، دالّين قد يتشابهان تشابهًا ضمنيًّا، عوضًا عن الاختلاف الصريح، بحيث ترضخ سيرورة التأليف الناتجة، والحالة هذه، لقوانين اللاتجاور discontiguity التراتبي (أو الرأسي/العمودي). وهكذا، على النقيض من سيرورة الإقران الناجمة عن التداعي الكناوي، تلك السيرورة التي تقرن بين دوالّ لاواعية في إطار متوالية دالّة لامتناهية وحيدة، والتي يتبدّى من خلالها انسيابُ العلائق التعاقبية (أو الأفقية)، فإن سيرورة التأليف الناتجة عن التداعي الاستعاري تؤلف بين دالّ لاواع ما ينتمي إلى متوالية دالّة لامتناهية ما وبين دالّ لاواع آخر ينتمي إلى متوالية دالّة لامتناهية أخرى، فيتجلى من جرّاء هذه السيرورة الأخيرة تدفُّق العلائق التراتبية (أو الرأسية/العمودية). يدلّ ذلك على أن "منطق" الاستعارة، كما ينظر إليه لاكان، ينحو نحو تمثيل حركة لاتزامنية diachronic (أو عبر-زمنية، حرفيًّا)، هذه المرّة، حركةٍ متواترة تسير من دالّ لاواع، ذي عَزْو كِناوي أصلاً، إلى دالّ لاواع آخرَ، ذي عَزْو كِناوي أصلاً، كذلك. فأما الدالّ اللاواعي الأوّل، فيما يبدو، فيذعن متواريًا عن النظر "الواعي" لكمٍّية محدّدة من الكبت repression (أي الكبت الثانوي)؛ وأما الدالّ اللاواعي الأخير، فيما يظهر، فيعود أدراجَه، من جديدٍ، متسربلاً بسربال عَرَض من الأعراض المَرَضية-النفسية في طور لاحق. وبما أن بنية العَرَض المَرَضي-النفسي هي، في حدّ ذاتها ومن تلقاء ذاتها، بنية استعارية في مستوى اللاوعي[30]، فمن البيِّن، إذن، أن يعكس تواترُ الحركة التزمُّنية تلك، في نهاية المطاف، ذلك التكرارَ المتقطع لمَراهِص الدالّة الوالدية، أو مراتب المجاز الأبوي، كما تمّت مناقشته آنفًا. ومن ثمّ، يعكس هذا التكرارُ المتقطع، بدوره، معاودةَ عَرَض من الأعراض المَرَضية-النفسية الماضية، عَرَض يقبل الاختزال الدلالي إلى حدّ تلك الدلالة القضيبية التي يضمرها الدالّ الأصلي (أو البدائي) باعتباره الجدَّ الأسطوريَّ للدوالّ كلها، كما رأيت (انظر، أيضًا، الحاشية: 17). وكصورة بلاغية (أو بيانية)، في أية لغة من اللغات الإنسانية، فإن "منطق" الاستعارة، حسبما يعنيه المصطلح بحرفيته (قا: عارَ فلانٌ الشيءَ، أي أخذه ونقله إلى معيّته)، يشير إلى ذلك الإجراء "النقلي" أو "التحويلي" الذي يتمّ به إحلال جامد من الجوامد، أو حيٍّ من الأحياء، محلَّ جامد آخر، أو حيٍّ آخر، له مِساسٌ به، شريطة أن يقوم هذا المِساس على وجود مماثلة ضمنية بين الجامد أو الحيِّ "الحالِّ" وبين الجامد أو الحيِّ "المحلول" في المقام اللااستثنائي (مثلاً، حين يقال: "لبنى هي الشمس...."، وحين يقال: "قيسٌ هو البحر...."، وهكذا دواليك). ففي هذا المقام اللااستثنائي، إذن، فإن مصطلح الاستعارة لجِدُّ قابل للمقايسة بمصطلح التشبيه simile بوصفه صورة بلاغية (أو بيانية) أخرى، صورة تقتضي ضمنًا الإجراء "النقلي" أو "التحويلي" ذاته، عدا أن المماثلة الضمنية بين الجامد أو الحيِّ "الحالِّ" وبين الجامد أو الحيِّ "المحلول"، لمماثلةٌ تقترن اقترانًا صريحًا بالتمثيل البنيوي لأدوات التشبيه المعروفة (مثلاً، حين يقال: "لبنى كما الشمسُ...."، وحين يقال: "قيسٌ كما البحرُ...."، وهلمّ جرًّا). من هنا، يمكن استشفاف قوانين اللاتجاور التراتبي (أو الرأسي/العمودي) استشفافًا أكثر جلاءً، بالأخصّ فيما يتصل بمسنون بنية العَرَض المَرَضي-النفسي: فكما أن كلمة "لبنى"، بحياتيّتها، تقيم علاقة استعارية بينها وبين كلمة "الشمس"، بجماديّتها (أي أن المشبَّه والمشبَّه به لامتجاوران لاتجاورًا صريحًا ولكنهما متشابهان تشابهًا ضمنيًّا)، فإن بنية العَرَض المَرَضي-النفسي، كذلك، تملي على دالّ لاواع ما أن ينشئ صلة استعارية بينه وبين دالّ لاواع آخرَ كان أو صار مكبوتًا في الأنا الغائبة (أي أنه يعمل عملا غيابيًّا in absentia) على العكس من حالة الصلة الكِناوية التي تنشأ بين أية مصفوفة من دالّين لاواعيين، أو أكثر، دالّين متجاورين تجاورًا بيِّنًا ولكنهما مختلفان اختلافًا صريحًا، فهي صلة كِناوية تعمل عملاً حضوريًّا in praesentia، بدلاً من العمل الغيابي. وبالتالي، يبدو أن مصطلح الاستعارة، بما يستلزمه من خصائص التشابه الضمني وقوانين اللاتجاور التراتبي (أو الرأسي/العمودي)، يبدو أنه، في كتابات لاكان، كذلك، ليس سوى مصطلح بديل لمفهوم فرويد عمّا يدعوه بـ"التكاثف" condensation في سياق تنظيره حول عمل الحلم، تحديدًا: إذ يتبدّى هذا التكاثف كآلية يتمّ من جرّائها التأليفُ بين صورتين حلميّتين بسيطتين، أو أكثر، صورتين حلميّتين تلتقيان في استحضار شيءٍ من جامدٍ أو حيٍّ، فيُصار، من ثمّ، إلى انصهارهما والتحامهما في صورة حلمية مركّبة وحيدة[31].

يتبيّن مما تقدّم، إذن، أن "منطق" الكناية، بمُتعاقِباته، و"منطق" الاستعارة، بمُتراتِباته، لمنطقان يقفان على طرفي نقيض في سيرورة الاستقلاب اللغوي: إذ تتجلى الثنائية الجديدة "الكناية-الاستعارة" (وهي الثنائية التي استلهمها لاكان، في الأساس، من ثنائية دو سوسور الشهيرة الثالثة "التزامني-التزمُّني"، كما رأيت)، تتجلى باعتبارها الثنائية الأكثر أهمية في إطار المنهج اللاكاني في التحليل النفسي، وخصوصًا فيما له مِساسٌ بالأعمال الذهنية لتداعيات الدوالّ اللاواعية. فقد ألهمت، من قبلُ، ثنائيةُ دو سوسور هذه، وما تقتضيه اقتضاءً بنيويًّا، تنظيرَ يعقوبسون، بالمثابة ذاتها، حين افترض هذا الأخيرُ وجودَ محورين نظميَّيْن متميّزين في سيرورة الاستقلاب اللغوي، ألا وهما: المحور الاستئلافي combinatorial axis والمحور الاستبدالي substitutive axis. فأما المحور الاستئلافي، من طرفه، فيعمل عملاً تعاقبيًّا (أو أفقيًّا) وفقًا لخصائص الاختلاف وقوانين التجاور، كما ذُكر؛ وأما المحور الاستبدالي، من قبله، فيسير سيرًا تراتبيًا (أو رأسيًّا/عموديًّا) تبعًا لخصائص التشابه وقوانين اللاتجاور، كما ذُكر أيضًا[32]. وهكذا، ففي المسار السويّ لعملية الاستقلاب اللغوي، ينزع المتكلم "اللامنقسم" (وهو، عند لاكان، مسندٌ إليه منقسمٌ في البنية السريرية "السوية" للعُصاب)، ينزع إلى استخدام مصفوفاتٍ من الكنايات بمقتضى المحور الاستئلافي، من جهة، ويميل إلى استعمال مصفوفاتٍ من الاستعارات بموجب المحور الاستبدالي، من جهة ثانية. إذ يتجسَّد هذا الاستواء الاستقلابي-اللغوي، بقدر ما يتضمّنه ذانك المحوران النظميّان من مضامين محدّدة، يتجسّد كنتيجةٍ محتَّمة لما يسمّيه بيرغسون بـ"المتعذِّر تعبيره" (أو "المتعذِّر وصفه") l’inexprimable، بمعنى أن اللغة الإنسانية، بأي شكل من أشكال التعبير أو الوصف، ليس بوسعها أن تعبِّر عن المَحْدُوسات intuited objects تعبيرًا دقيقًا، أو أن تصفها وصفًا وافيًا، في واقع الأمر، الأمر الذي يحدو بالمرء إلى استخدام مختلف أنواع الصور البلاغية (أو البيانية)، كالكناية والمَجاز المُرْسَل والاستعارة والتشبيه، وغيرها[33]. وفي المسار غير السويّ لعملية الاستقلاب اللغوي، من ناحية أخرى، وبالأخصّ في صيرورة ما هو معروف بالحُباس (أو الصُّمات) aphasia، يَوْهُن أحد ذينك المحورين النظميَّيْن في أداء عمله، كما يلاحظ يعقوبسون، مما يؤدّي إلى هيمنة المحور النظمي الآخر (لا إلى تعزيزٍ في أداء عمله، بالضرورة): فإن الحُباسي (أو الصُّماتي) aphasiac الذي يعاني من اضطراب في الاختلاف والتجاور، ينحو نحو استخدام الاستعارة (أو نظيرها، التشبيه) استخدامًا غالبًا عن طريق المحور الاستبدالي؛ وإن الحُباسي (أو الصُّماتي) الذي يكابد اضطرابًا في التشابه واللاتجاور، ينزع إلى استعمال الكناية (أو مثيلها، المَجاز المُرْسَل) استعمالاً سائدًا عن سبيل المحور الاستئلافي[34]. وعلى هذا الأساس، يدعو ما يرصده يعقوبسون إلى الاقتراح، إذن، بأن هذين النوعين من الاعتلال الحُباسي (أو الصُّماتي) يمكن إدراجُهما تحت ما يسمّيه فرويد بالحُباس ذي الرتبة الأولى (أو الحُباس اللفظي verbal aphasia)، ذلك الحُباس الذي "لا تضطرب [فيه] سوى التداعيات أو الترابطات بين العناصر المنفصلة لتمثيل الكلمة". وذلك لأن الحُباس ذا الرتبة الأولى هذا يتميّز تميُّزًا صارخًا عمّا يدعوه فرويد بالحُباس ذي الرتبة الثانية (أو الحُباس اللارمزي asymbolic aphasia)، ذلك الحُباس الذي "يضطرب [فيه] التداعي أو الترابط بين تمثيل الكلمة وتمثيل الشيء". ناهيك، بطبيعة الحال، عمّا يصطلح عليه فرويد اصطلاحًا معدَّلاً، أخيرًا، بالحُباس ذي الرتبة الثالثة (أو الحُباس اللاأدري agnostic aphasia)، ذلك الحُباس الذي يصيب فيه الاضطرابُ، فيما يظهر، سيرورةَ التداعي أو الترابط بين الشيء وتمثيله (أو ربما بين الكلمة وتمثيلها)[35]. وهكذا، وبالرجوع إلى المسار السويّ لعملية الاستقلاب اللغوي، يبدو أن لاكان يتفق مع يعقوبسون على تحديد عاملي التداعي الكناوي والتداعي الاستعاري بدافعي المحور الاستئلافي والمحور الاستبدالي، على الترتيب، إذ يمكن إدراك هذا التحديد إدراكًا جليًّا من البيان التصريحي التالي، على سبيل المثال:

أنا مُبالٍ بهذا الشخص أو بهذا الشيء.

فإذا اتفق للمسند إليه أن يصدر هذا البيان التصريحي إصدارًا "واعيًا" في قرينة من القرائن، فلا مِراءَ، عندئذٍ، في أن الدالّ الواعي "أنا" والدالّ الواعي "مُبالٍ" (وجوبًا) يقيمان فيما بينهما علاقة كِناوية وفقًا للمحور الاستئلافي، إلخ، ولا جدالَ، كذلك، في أن الدالّ الواعي "مُبالٍ" والدالّ اللاواعي "لامُبالٍ" (جوازًا) ينشئان فيما بينهما صلة استعارية تبعًا للمحور الاستبدالي، بدلاً من ذلك، إلخ. غير أن لاكان يختلف مع يعقوبسون في الموازاة المفهومية الدقيقة بين مصطلحي الكناية والاستعارة، من طرف، وبين مصطلحي الانزياح والتكاثف، بحسب تنظير فرويد، من طرف آخر: ففي حين أن يعقوبسون، فيما يبدو، يناظر الكناية بكلّ من الانزياح والتكاثف، من جهة، ويناظر الاستعارة بكلّ من الدمج (= التماهي) والترميز، من جهة ثانية[36]، يظهر أن لاكان، عوضًا عن ذلك، يقارن، ببساطة، الكناية بالانزياح، من ناحية، ويقارن الاستعارة بالتكاثف، من ناحية أخرى[37]. وبالتالي، يضع لاكان التشديدَ على أولوية التداعي الكناوي وسلطانه المنطقي على التداعي الاستعاري، وذلك استنادًا إلى الافتراض القابل للإدراك بأن عمل الانزياح يمكن تنشيطه كشرط قَبْلي منطقيًّا لكي يطفق التكاثف في أداء عمله، لمجرد أن "تنسيق الدوالّ يتحتّم عليه أن يكون ممكنًا [في سيرورة الاستقلاب اللغوي] قبل أن يتسنّى لتحويلات المدلول أن تحدُث [في هذه السيرورة]"[38].

وهكذا، يظهر أن أطروحة لاكان التي تقضي بأولوية التداعي الكناوي وسلطانه المنطقي على التداعي الاستعاري، من وجهة النظر هذه، لأطروحة إن هي إلا لازمةٌ بيِّنة بذاتها من لازمات توكيده على أسبقية الدالّ وسيادته المنطقية على المدلول (في شكل من أشكال الحضور اللاأبدي) خلافًا لمنح دو سوسور كلاًّ من الماهيتين مرتبةً تتناظر بأهميتها مع الأخرى (في نوع من أنواع الحضور الأبدي)، كما تمّت مناقشته آنفًا. بيد أن لاكان ودو سوسور كليهما، فيما يبدو، يتفقان في الرأي على تشديد آنَفية البعد البنيوي (أي الملموس) للغة وسؤدده المنطقي على بعدها المفهومي (أي المجرَّد)، وذلك لأن الائتلاف بين ماهيتي الدالّ والمدلول، كما يراه الأخيرُ (أي دو سوسور)، "يتمخّض عن شكل [أو مبنى]، لا عن كُنْهٍ [أو معنى]"[39]. فمن جرّاء هذا الارتئاء الجليّ بأن اللغة، كظاهرة إنسانية، يتحتّم تشريحُها من حيثية بنيتها الداخلية، ينحو لاكان مستيقنًا نحو الارتئاء الأكثر جلاءً بأن يتمّ النظرُ إلى نهج فرويد في ماهية النفس وإلى نهج دو سوسور في ماهية اللغة على أنهما نهجان متمِّمان لبعضهما البعض: ففي حين أن فرويد يعمد عمدًا إلى استكناه لغة اللاوعي وما تبتنيه لغةٌ كهذه ابتناءً ماوراءَ-نفسيًّا meta-psychological، يسعى دو سوسور، بدوره، سعيًا إلى استكشاف لاوعي اللغة وما يقتنيه لاوعيٌ كهذا اقتناءً ماوراءَ-جمعيًّا meta-collective. من هنا، أخيرًا، تميط هذه الرؤية التناهُجية، في ماهيّتي النفس واللغة الإنسانيّتين، اللثامَ عن ثنائية دو سوسور الشهيرة الرابعة، "اللغة-الكلام" langue-parole، تلك الثنائية التي يعلق لاكان عليها الأهمية الأكبر في إطار منهجه في التحليل النفسي. كما تمّ ذكره من قبل، ينظر دو سوسور، من طرفه، إلى اللغة langue باعتبارها نظامًا تفاضليًّا لدواليلَ signs ليس إلا، نظامًا لافيزيائيًّا مجرَّدًا يشتمل، بكلاّنيّته، على سائر العادات اللغوية التي تسنَّى لها البقاءُ في مجتمع من المجتمعات أو في مُشترَك من المُشترَكات على خلاف نظرته (أي دو سوسور) إلى الكلام parole باعتباره تحقيقًا طبيعيًّا يكاد يكون مطابقًا لذلك النظام التفاضلي بحدّ ذاته، تحقيقًا فيزيائيًّا ملموسًا يحتوي، بجزآنيّته، على أية مصفوفة قابلةٍ للرصد من الأفعال الكلامية التي ينتجها الفردُ في المجتمع نفسه أو في المُشترَك عينه[40]. وبما أن لاكان، من لدنه، ينظر إلى اللغة بوصفها نظامًا تفاضليًّا لدوالٍّ signifiers لها مدلولاتها، وذلك بمقتضى نظرته إليها كظاهرة تمثيلية في المقام الأوّلي، فإنه، من ثمّ، يضع تمييزًا آخرَ بين اللغة langue على أنها نظامٌ مادّي محسوس، بخصوصيّته (كاللغة العربية واللغة الإنكليزية واللغة الفرنسية، إلخ)، من جهة، وبين اللسان langage على أنه نظامٌ معنوي مُدْرَك، بعموميّته (كتلك اللغة الشمولية التي تنطوي على بنيان فوقي للغات الإنسانية بأسرها)، من جهة ثانية: فهو (أي لاكان)، بالتالي، يلجأ إلى تأسيس ثنائيته التحليلية-النفسية، "اللسان-الكلام" langage-parole[41]، كثنائية بديلة عن الثنائية التحليلية-البنيوية، "اللغة-الكلام" langue-parole، بحسب مفهوم دو سوسور[42]. إذ إن ما يحثّ لاكان على ترسيخ ثنائيته المقابلة هذه، قبل كلّ شيء، هو اقتناعه التامُّ بمقولة مُفادُها بأن مكنون "اللسان"، لسان الحال، لا مكنون "اللغة"، لهو الذي يمثّل الأسلوبَ اللاواعي للوجود اللغوي تمثيلاً جُوّانيًّا بتكتُّمه على النقيض من مبثوث "الكلام" فليس له سوى أن يجسِّد الأسلوبَ الواعي لهذا الوجود تجسيدًا برّانيًّا بعَجيجه، عوضًا عن ذلك. يعني ذلك أن انقسامَ المسند إليه (الشخصي) بين ضمير المتكلم المفرد اللاواعي في البيان التلفظي وبين ضمير المتكلم المفرد الواعي في البيان التصريحي، كما سبق ذكره، ليمكن تفسيره الآن بفحوى انقسامه أو انشطاره بين مكنون "اللسان" وتمثيله الجُوّاني بكتْمه وبين مبثوث "الكلام" وتجسيده البرّاني بعَجِّه، على التوالي، نظرًا لانقسامه أو انشطاره بين عالم الدوالّ في المنظم الرمزي وبين عالم المدلولات في المنظم الخيالي، كما سبق ذكره، كذلك. واستنادًا إلى ذلك، يمكن استشفاف هذا التفسير استشفافًا جليًّا من البيان التصريحي الذي تمّ الاستشهاد به من قبل، على سبيل المثال، ولكن حين يقترن الدالُّ الواعي "مُبالٍ" بضدِّه اللاواعي "لامُبالٍ" في قرين البيان التلفظي، نحو:

أنا مُبالٍ بهذا الشخص أو بهذا الشيء.

أنا لامُبالٍ بهذا الشخص أو بهذا الشيء.

مرة أخرى، إذا اتفق للمسند إليه أن يصدر البيان التصريحي ذاته إصدارًا "واعيًا" في قرينة من القرائن، فإن الدالّ الواعي "مُبالٍ" (وجوبًا) سيكوِّن واحدًا من مكوِّنات البيان التصريحي نفسه، البيان الذي ينجلي عن نِتاج واعٍ من نتاجات الكلام الواعية، وتجسيده البرّاني بعَجِّه على العكس من حالة الدالّ اللاواعي "لامُبالٍ" (جوازًا)، فإنه سيقوِّم، والحالة هذه، واحدًا من مقوِّمات قرين البيان التلفظي المقابل، البيان الذي يتكشّف عن مِخاض لاواعٍ من مِخاضات اللسان اللاواعية، وتمثيله الجُوّاني بكتْمه. وبالتالي، فإن نزوعَ لاكان نزوعَ الوطيدِ العزم إلى الارتئاء الجلي بأن يتمّ التوفيقُ العلمي بين نهج فرويد في ماهية النفس الإنسانية (أي عَمْده إلى استكناه لغة اللاوعي وما تبتنيه)، من ناحية، وبين نهج دو سوسور في ماهية اللغة الإنسانية (أي سَعْيه إلى استكشاف لاوعي اللغة وما يقتنيه)، من ناحية أخرى، لنزوعٌ إن هو، في حقيقة الأمر، إلا محاولة لا يُستهان بها في إقامة الدليل، إلى مدىً أبعد، على موضوعته (أي لاكان) الأكثر شهرة، من هذا الخصوص، تلك الموضوعة القائلة بأن "اللاوعيَ مبنيٌّ كبنيان اللغة"[43]، كما تمّ الاستشهاد بها في سياق العمل الحلمي قبل قليل (انظر، أيضًا، الحاشية: 37)، وتلك الموضوعة التي غالبًا ما أُسيءَ تفسيرها في أدبيات التحليل النفسي، وغيرها.

فبالنظر اليقيني إلى الحلم، حتى بأضغاثه، على أنه تجلٍّ من تجليات اللاوعي (مثله، في ذلك، كمثل الدُعابة والعمل الزالّ والعَرَض المَرَضي-النفسي)، يتبيّن بجلاءٍ أن القصد الأوّلي من موضوعة لاكان هذه، فيما يبدو، هو أن تسيرَ لغة اللاوعي، قبل كل شيء، تسيارَ الأحجيات والألغاز في غير مظانِّها. إذ ليس هذا القصدُ الأوّلي، في واقع الأمر، جديدًا في حدّ ذاته: فقد سبق لفرويد نفسه أن وضع التوكيد عليه في سياق تنظيره حول سيرورة العمل الحلمي، وذلك من جرّاء استخدامه المَجازي لما يُسمّى بـ"التكْنِية التصويرية" rebus (أي تمثيلُ الدالِّ تمثيلاً تصويريًّا يوحي بمقاطعه الصوتية، كصورة كُرٍّ يركب كُرًّا آخر، مثلاً، إيحاءً بالصيغة الفعلية "كَرْكَرَ" أو بالصيغة الاسمية "كَرْكَرة"، إلخ)؛ فهو (أي فرويد)، بذلك، يضع التشديد على المقايسة "الدلالية" بين بنية الحلم وبنية التكْنِية التصويرية. وفي هذا الصدد، يقول فرويد جازمًا:

ليس في وسعنا أن نطلق حكمًا صائبًا على التكْنِية التصويرية إلا إذا [....] حاولنا استبدال كلّ عنصر من عناصرها، على حدةٍ، بمقطع صوتي أو بلفظٍ يمكن لذلك العنصر أن يمثّله بشكل أو بآخر. فالألفاظ التي تمّ تأليفها على هذه الشاكلة لم تعد ألفاظًا خِلْوًا من المعنى، بل ألفاظًا قد تكوِّن عبارة شعرية ذاتَ جمالية ودلالة مُثليين. إذ إن الحلم هو أحجية مصوَّرة من هذا النوع[44].

وفضلاً عن ذلك، يظهر أن الانتقادات التي تعرّضت لها موضوعة لاكان تلك، وهي انتقاداتٌ تنحو معظمها نحو ترديد أصداء ذلك النقد الذي وجّهه إميل بنڤينيست إلى مقال فرويد المغمور المعنى الطباقي للألفاظ الأصلية (أو البدائية) Gegensinn der Urworte[45]، يظهر أنها تستند بحُجَجها، في حقيقة الأمر، إلى مجرّد سوء فهم لسانيٍّ لتلك الآليات التي تشكل الأسس المحرِّكة لنظام اللغة الطبيعية، بوجه العموم، وتستند بحُجَجها، كذلك، إلى جهل مطبق بكتاب فرويد الأخير موجز في التحليل النفسي، ذلك الكتاب الذي يبيِّن بجلاء أكثر أن الموضوعة المعنية ليست موضوعة لاكان، والحقّ يقال، بل موضوعته هو (أي فرويد نفسه) حين عبّر عنها تعبيرًا لا مِراءَ فيه. لاحظ، في هذه القرينة، كيف أن فرويد يعزو البعدَ الدلالي للحلم إلى الجانب التطوُّري للكلام، قائلاً:

إن الأحلامَ، [حتى بأضغاثها]، تستخدم رموزًا لغوية دونما قيدٌ أو حدّ، رموزًا ليس الحالمُ على علم بمعانيها جُلِّها. [....] فمن المحتمل، [إذن]، أن تتأصّل أصولها في الأطوار البُداهية لتطوُّر الكلام[46].

ومن هذا الخصوص، فوق كل ذلك، فقد يكون لهذه الموضوعة الفرويدية في حدّ ذاتها، بالإضافة إلى منهج دو سوسور في اللسانيات البنيوية، قد يكون لها، كذلك، تأثيرٌ مباشر على منهج كلود ليڤي-شتراوس فيما هو معروف بعلم الإنسان البنيوي (أو الأنثروبولوجيا البنيوية): إذ يعلن هذا الأخيرُ أن الأسطورة، حتى بمحض خياليّتها، لا بدّ لها من أن تعكس بنية لغوية، بهيئة أو بأخرى، في إطار نظام تفاضلي لما يدعوه بـ"الميثيمات" mythemes (أي وحدات التأسطر)، وذلك بالقياس إلى النظام التفاضلي للفونيمات phonemes (أي وحدات التلفظ)، ومن ثمّ إلى النظام التفاضلي للدواليل، كما رأيت، نظرًا للتطابق الجوهري اللافت بين الأساطير والأحلام في كلّ من الغموض الزماني والالتباس المكاني[47]. وهكذا، يمكن الآن استشفافُ ما تتضمّنه الموضوعة المعنية استشفافًا لا لبسَ فيه: فكما أن الأسطورة مبنيّة كبنيان اللغة بمقتضى قابليّتها للسَّرْد أو للرواية، فإن الحلمَ مبنيٌّ كبنيان اللغة، كذلك، بفضل قابليّته للقَصّ أو للحكاية. من هنا، يعمد لاكان إلى نحت المصطلح الجديد "اللالغة" lalangue (وهو، في حقيقة الأمر، ائتلافٌ بين أداة التعريف la والصيغة الاسمية langue في اللغة الفرنسية)، ليدلَّ به على تلك الأشياء والأفكار التي لا تقبل السرد/الرواية ولا تقبل القصّ/الحكاية، كما هي الحال في مصطلح "المتعذِّر تعبيره" (أو "المتعذِّر وصفه") l’inexprimable، الذي أشيرَ إليه آنفًا، بحسب مفهوم بيرغسون: فهو (أي لاكان)، بذلك، يدلي باقتراحه النجيع بأن نزوعَ المسندِ إليه الحرونَ إلى التلاعب بالتباسية الدالّ اللاواعي، كأمر مقضيّ، لنزوعٌ سيفضي به، دونما ريبٌ، إلى نوع من أنواع النُّعاظ والشُّباق النفسانيين-اللسانيين، النُّعاظ والشُّباق اللذين ينطويان، بدوريهما، على شكل من أشكال المتعة/اللذَّة اللغوية أو على لسانية "الرَّعِب" jouissance في حدّ ذاته (وهو مصطلح جديد آخر عمد لاكان إلى نحته، أيضًا، لكي يوحيَ بدلالة "الرَّعشة" ودلالة "اللعِب" في آن واحد)[48]. إذ إن ما يحثّ لاكان، في المقام الأوّلي، على نحت مصطلحات جديدة كذينك هو، في واقع الأمر، موضوعُ حلقةٍ دراسية مديدة خصّصه لأعمال جايمز جويس، وبالأخصّ عمله الأخير Finnegans Wake، ذلك العمل الذي يتفرّد بلغة ذُهانية تشقّ عصا الكتابة كلِّها، والذي لا يُضارَع في دوالٍّ متعدّدة المدلولات شديدة المِراس على القارئ، أيًّا كان. تأمّل، مثلاً، عنوانَ الكتاب ذاتَه، بادئ ذي بدء، العنوانَ الذي يدلُّ على دلالاتٍ تبلغ بضعًا وعشرين دلالة، منها: "يقظة فينيغان أو الفينيغانيين" و"السهر على جثة فينيغان أو جثث الفينيغانيين" و"يا أيها الفينيغانيون استيقظوا" و"يستيقظ الفينيغانيون (أخيرًا)" و"يا أيها الفينيغانيون اسهروا على جثة الميّت أو جثث الموتى" و"يسهر الفينيغانيون على جثة الميّت أو جثث الموتى (أخيرًا)"، وهلمّ جرًّا. لهذا السبب دون غيره، إذن، ينظر لاكان إلى أسلوب الكتابة في ذلك العمل على أنه أسلوبٌ يكتظُّ بما يسمّيه بـ"الدوالّ المَحْشُوَّة" stuffed signifiers، كما هي الحال في الدالّ المحشوّ bootiful ومكوِّناته الثلاثة على الأقل: boot (= جزمة/رفسة) و booty (= غنيمة/كَسْب) و beautiful (= جميل/وسيم، حسبما يلفظها الطفل)، إلخ[49]. وهكذا، فيما يبدو، يتبدّى عمل جايمز جويس الأخير Finnegans Wake بلغته الذُّهانية هذه كتجسيدٍ لملحمة العقل اللاواعية، الملحمة التي تجري أحداثها في عتمة الليل على النقيض من عمله قبل الأخير أوليس Ulysses الذي يتجلى بلغته العُصابية كتجسيمٍ لملحمة الجسد الواعية، الملحمة التي تدور أحداثها، والحالة هذه، في وضح النهار.

يتضح من هذا الشرح المفصَّل لماهية الدال، إذن، أن هذه الماهية، وما ترعويه من رَعْوَةٍ، لماهيةٌ ليس لها سوى أن تستحوذ استحواذًا لا هوادةَ فيه على الفحوى النفساني لكينونة المسند إليه، برمّتها، أي وجوده وتفكيره على حدٍّ سِوىً: إذ لا يطفق هذا الاستحواذُ برُتوعه الحُرِّ، فحسب، في ذات اللحظة التي ينطق المسندُ إليه إبانها بكلمة أو يدلّ على فكرة أو شيء، بل يطفق برُتوعه الطليق، كذلك، حينما يُرْتَج على المسند إليه إرتاجًا دونما عمدٌ أو قصد، أو حتى حين لا ينبس ببنت شفة عن عمدٍ أو قصد. من هنا، تتكشّف هذه الاستحواذية الشؤمى، في حدّ ذاتها ومن تلقاء ذاتها، تتكشّف عن تكوين فجوةٍ لا تُجْسَر، أو، بالحري، عن ترسيخ لامخرجيةٍ كؤودٍ، بين ما يعنيه المسند إليه "قسرًا" إزاءَ تقوُّله الواعي في البيان التصريحي، من طرف، وبين ما يعنيه المسند إليه نفسه "طوعًا" حيالَ تفوُّهه اللاواعي في البيان التلفظي، من طرف آخر. وذلك لأن لغةَ الرغبة، ولغةَ ما تنطوي عليه نساخاتُ الرغبةِ كلُّها، للغتان لا تسيران، في واقع الأمر، تسيارَ بنىً لغويةٍ "مرئيةٍ" في مستوى الكلام parole، بل تسيران، بالأقْمَن، تسيارَ بنىً لغويةٍ "لامرئيةٍ" في مستوى اللسان langage، وإلا فسوف يصيرُ بهما المصيرُ إلى استحالة التقوُّل أو استحالة التفوُّه في مستوى اللالغة lalangue. لهذا السبب دون سواه، إذن، يتبنّى لاكان الارتئاءَ الجزميّ بأن على المحلِّل ألا يُسلِّم، البتة، بالقيمة الظاهرية (أو بالدالَّة الظاهرية) لما يعنيه المحلَّل "قسرًا" إزاءَ تقوُّله الواعي (في البيان التصريحي)، بل عليه، بدلاً من ذلك، أن يصبَّ جامَ اهتمامه على تجلِّيات الدالّ اللاواعي بأسرها، نظرًا لـ"عبر-فردية" هذه التجليات، من جهة، ولامُتاحيّتها تحت تصرُّف المحلَّل، من جهة أخرى[50]. على هذا الأساس، يبيِّن لاكان كيف أن ماهية الدالّ اللاواعي تستحوذ استحواذًا لا رحمةَ فيه على الفحوى النفساني لكينونة المسند إليه، بكلِّيتها، وذلك من خلال تحليله المثير لقصة إدغار آلن پو (1809-1849) الرسالة المسروقة[51]. تدور أحداث هذه القصة الفريدة حول "رسالة سرِّية" تتجلى بوصفها رمزًا جُزافيًّا لماهية الدالّ اللاواعي، رسالةٍ سرِّية تمّ إرسالها إلى الملكة شخصيًّا، فسرقها، آنئذٍ، وزيرٌ من الوزراء في غياب الملك عَنْوةً. وحتى بعد لأيٍ من التفتيش والتمحيص المتواصلين في منزل الوزير، لم يكن في مقدور أيٍّ من رجال الشرطة أن يعثر على تلك الرسالة أو على أثر لها، ممّا حدا بهم إلى الافتراض بأن الوزير قد خبّأها في مكان لا يعلمه أحدٌ سواه. إلا أن رجلَ تَحَرٍّ "محنَّكًا" استطاع، في النهاية، أن يلقى الرسالة ذاتها، ولكن أين؟ في المكان الذي لا يخفى حتى على من لا يبصر: في حامول الرسائل الذي تراه العين، أية عين، متدلِّيًا من على رفِّ المُصطلى بمنزل الوزير! وبما أن الرسالة المعنية لم يُصَرْ، حقيقةً، إلى فتحها، ولم تتمّ، من ثمّ، قراءتها، في أيٍّ من مشاهد القصة بأكملها، فإن هذا النفي السرديَّ المتعمَّد يدلّ دلالة جلية على أن كافّة شخصيات القصة بخياليّتها، بما فيها شخصية القارئ بواقعيّتها، ليس لها أن تفلحَ في تحديد (أو، بالحري، في تحتيم) فحواء الرسالة في المقام الأوّلي. وهكذا، إذن، فإن ماهية الدالّ اللاواعي بذاتها، لا ماهية المدلول (أو ماهية الرسالة السرية بعينها، لا ماهية المضمون) لهي القوّة الملموسة، لا القوّة المجرَّدة، التي تحتِّم الفحوى النفساني لكينونة كلِّ من هذه الشخصيات، بما فيها كينونة القارئ. يعني ذلك أن الإنسان لا يوجد، بادئ ذي بدء، ككائن يتمتع باستقلاله (الوجودي)، ثمّ يدخل، بعدئذٍ، في عوالم الدوالِّ ككائن لا يتمتع باستقلاله (الوجودي): إن الإنسان لا يبرز إلى حيِّز الوجود إلا في عوالم الدوالِّ ومن خلال هذه العوالم، نظرًا لأن دُنى الكلمات، في حدّ ذاتها، لهي التي تبتكر دُنى الأشياء. ولكن، كيف لِدُنيا الكلمة أن تستنفدَ معنى الكلمة، أو أن تستنزفَ معنى المعنى، في أيِّ شيء خلا ذلك النشاط الذهني الذي يولِّدها ويحرِّضها تحريضًا؟ يجيب لاكان:

إنها الكلمة، يقينًا، لهي التي كانت في البدء، الكلمة التي نحيا في ابتكارها [آنًا بعد آن]. بيد أنه نشاطنا الذهني، [ولا ريب]، لهو الذي يستمرُّ في هذا الابتكار، وذلك من جرّاء تجديده إيّاه تجديدًا مستديمًا. فليس لنا أن نعودَ بتفكيرنا إلى [ذلك] النشاط ما لم نُبِحْ لأنفسنا الانجرافَ بتيّاره أكثر فأكثر[52].

على ضوء ما تقدّم، إذن، تتجلى ماهية الدالّ signifier ضمن إطار المنهج اللاكاني في التحليل النفسي، تتجلى كماهية تقترن بدلالة أكثر شمولاً ممّا تقترن به ضمن إطار المنهج السوسوري في التحليل البنيوي. إذ يبدو أن ماهية الدالِّ، والحالة هذه، ليست مجرَّد ماهية تقوم على المقوِّم المادّي أو الإحساسي لماهية الدالولsign ، فحسب، بل هي ماهية تحتوي، كمِخاض من مِخاضاتها المتعدّدة، كذلك، على ماهية المدلول signified في حدّ ذاتها، تلك الماهية التي تقوم على المقوِّم المعنوي أو الإدراكي، على النقيض. وفضلاً عن ذلك، تنجلي ماهية الدالّ، أيضًا، عن ماهية لها وظيفة تمثيلية استبدادية لا مناصَ منها، ماهية تستبدّ، بتمثيلها، استبدادًا لا هوادةَ فيه على الفحوى النفساني لكينونة المسند إليه، برمّتها، أي وجوده وتفكيره على حدٍّ سِوىً. إذ يظهر أن كينونة المسند إليه، والحال هذه، لكينونةٌ هي ما هي، في غمار ثنائياتِ أضدادٍ لا عدَّ لها، وكينونة هي ما هي، من حيثيات دوالٍّ قد تدخل في نظام الوعي، من طرف، وقد تستقرُّ في نظام اللاوعي، من طرف آخر. وذلك لأن ماهية الدالّ، في حدّ ذاتها ومن تلقاء ذاتها، لماهيةٌ تمثّل كينونة المسند إليه تمثيلاً في مظانِّه أو في غير مظانِّه، تمثيلاً ليس له، في المنظم الواقعي، سوى أن يدمغَ هويّته الرمزية، شاء أم أبى.

خلاصة

قصارى القول، يمثّل الدالُّ، كوسيط مادّي أو إحساسي، كينونةَ المسند إليه بوصفه كائنًا منقسمًا ولامتفرِّدًا وازدواجيًّا (أو متأرجحًا)، لا باعتباره كائنًا لامنقسمًا ومتفرِّدًا وبيِّنًا، نظرًا لاستحواذ تلك السجايا النواحس (أي سجايا التردّد المتأصِّل والانقسام الراسخ والانسلاب المستديم) على فحواه النفساني، وما يستقيه، في مستوى اللغة. وعلى فرْض أن سائرَ أنواع الدلالات التي تدلّ عليها الدوالّ (اللاحقة) دلالاتٌ تحتِّمها تحتيمًا قَبْليًّا الدلالة القضيبية للدالّ الأصلي (أو البدائي)، فإن قدرة المسند إليه على استقلاب هذا الدالّ، بذاته، تتجسّد بمثابة دليل آخر على عُصابه في الحالات المَرَضية-النفسية "السوية"، في حين أن عجز المسند إليه عن استقلاب ذلك الدالّ، بعينه، يتجسّم بمثابة برهان آخر على ذُهانه في الحالات المَرَضية-النفسية "غير السوية". من هنا، يبرز الدالّ الأصلي (أو البدائي) للعيان بصفته الجدَّ "الأسطوري" لما سُمّي بالدوالّ الضمن-لغوية، الدوالّ التي تسترسل بدلالاتها داخل الميدان المحدّد للغة، والتي تتميّز بحيِّزها اللغوي عمّا دُعي بالدوالّ الدون-لغوية، تلك الدوالّ التي تبتعث بدلالاتها خارج الميدان المعيّن للغة. ومن خلال الشرح الوافي لثنائية دو سوسور الشهيرة "الدال-المدلول"، تلك الثنائية التي يعلق لاكان عليها أهمية كبيرة، ولكن من جرّاء إخضاعها لتعديلات نفسانية مُتروّىً فيها، يتبيّن أن ثمّة تقاربًا مفهوميًّا لافتًا بين تعريف دو سوسور لماهية الدالّ بكونه "صورة سمعية" وبين تعريف فرويد لماهية اللفظ على اعتباره "صورة صوتية"، فيتضح، بذلك، أن هناك تاريخًا لغويًّا مديدًا يكمن وراء تلك الثنائية. غير أن التباعد المفهومي بين كلّ من دو سوسور ولاكان في الثنائية ذاتها يَمَسّ تحديد الوِضعة المنطقية لماهية الدالّ إزاء ماهية المدلول: ففي حين أن دو سوسور يمنح كلاًّ من ماهيتي الدالّ والمدلول مرتبة تتناظر بأهميتها مع الأخرى، يشدّد لاكان على أسبقية الماهية الأولى وسيادتها المنطقية على الماهية الأخيرة. وفضلاً عن ذلك، فإن ثنائية دو سوسور البارزة الأخرى "التعاقبي-التراتبي"، تلك الثنائية التي يعلق لاكان عليها أهمية أكبر، والحال هذه، لَتُلقي الضوء على رأي دو سوسور القائل بأن الدالّ لا يكتسب دلالته الخاصّة (أو مدلوله، في حدّ ذاته) إلا من سبيل علائقه التعاقبية و/أو التراتبية بغيره من الدوالّ، وذلك بمقتضى نظرته (أي دو سوسور) إلى اللغة بوصفها نظامًا تفاضليًّا لدواليلَ، ليس إلا. وهكذا، لدى استشفاف التضادّ "البنيوي" بين كلّ من دو سوسور ولاكان في تحديد الوِضعة المنطقية لماهية الدالّ إزاء ماهية المدلول، يمكن، أيضًا، إدراك التضادّ "المفهومي" بين كلّ منهما في تعيين الوِضعة النفسانية لماهية الدالّ، على الأخصّ: فبينما ينظر دو سوسور إلى الدالّ باعتباره حدًّا قابلاً للتقوُّض النفساني لأنه يدلّ على شيء ما، ينظر لاكان إليه على أنه عنصر لا يقبل التقوُّض النفساني لمجرّد أنه لا يدلّ على أي شيء في المنظم الواقعي، المنظم الذي يقضي باستحالة القول الحقيقي استحالة مصيرية. وبالتالي، يتبنى لاكان، من خلال نظرته إلى اللغة بوصفها نظامًا تفاضليًّا لدوالّ لها مدلولاتها (بدلاً من الدواليل)، يتبنى الارتئاء النجيع بأن ماهية الدالّ تسعى إلى تمثيل كينونة المسند إليه من أجل دالّ آخر، ممّا يفضي إلى تشكيل متوالية دالَّة لا تنتهي: فهو (أي لاكان)، بذلك، يؤكد على الموضوعة القائلة بأن المعنى (واشتقاقاته) في حالة من التبدّل والتغيّر المتواصلين. إذ يبدو أن المتوالية الدالَّة اللامتناهية هذه تستتبع كلاًّ من "منطق" الكناية استتباعًا تعاقبيًّا (أو أفقيًّا)، من طرف، و"منطق" الاستعارة استتباعًا تراتبيًّا (أو رأسيًّا/عموديًّا)، من طرف آخر، ذينك المنطقين المتناقضين اللذين يؤدّيان عمليهما في سيرورة الاستقلاب اللغوي.

ولمّا كانت الثنائية الجديدة "الكناية-الاستعارة" على طرفي نقيض في المسار السوي لعملية الاستقلاب اللغوي (وهي الثنائية التي استلهمها لاكان، أصلاً، من ثنائية دو سوسور الشهيرة الثالثة "التزامني-التزمُّني")، فإن هاتين الصورتين البلاغيتين (أو البيانيتين) تتحدّدان بذينك المحورين النظميّين اللذين افترض يعقوبسون وجودَهما في سيرورة الاستقلاب ذاتها، على الترتيب: المحور الاستئلافي الذي يعمل عملاً تعاقبيًّا (أو أفقيًّا) والمحور الاستبدالي الذي يسير سيرًا تراتبيًّا (أو رأسيًّا/عموديًّا). وفي المسار غير السويّ لصيرورة الحُباس (أو الصُّمات) اللغوي، على النقيض من ذلك، فإنّ وَهَن أحدِ هذين المحورين النظميّين في أداء عمله سيؤدّي إلى هيمنة المحور النظمي الآخر (لا إلى تعزيزه، بالضرورة): فإذا وَهُن المحور الاستئلافي في أداء عمله، لسبب ما، فللحُباسي (أو الصُّماتي)، عندئذٍ، أن يميل إلى استخدام الاستعارة استخدامًا سائدًا عن طريق المحور الاستبدالي، والعكس بالعكس. إذ يتفق لاكان مع يعقوبسون على تعيين دافعي المحورين النظميّين على هذه الشاكلة، في حين يختلف الأول مع الأخير في الموازاة المفهومية الدقيقة بين مصطلحي الكناية والاستعارة في سيرورة الاستقلاب اللغوي وبين مصطلحي الانزياح والتكاثف، بحسب تنظير فرويد، في قرينة العمل الحلمي: فمن طرف، يظهر أن يعقوبسون يطابق الكناية بكلّ من الانزياح والتكاثف، ويطابق الاستعارة بكلّ من الدمج (= التماهي) والترميز؛ ومن طرف آخر، يبدو أن لاكان يماثل الكناية بالانزياح، فحسب، ويماثل الاستعارة بالتكاثف، ليس غير. ووفقًا لذلك، يؤكد لاكان على أولوية التداعي الكناوي (أو الانزياحي) وسلطانه المنطقي على التداعي الاستعاري (أو التكاثفي)، أولويةٍ تتبدّى كلازمة بيِّنة بذاتها من لازمات توكيده على أسبقية الدالّ وسيادته المنطقية على المدلول خلافًا لمنح دو سوسور كلاًّ من الماهيتين مرتبةً تتناظر بأهميتها مع الأخرى. بيد أن ثمّة اتفاقًا في الرأي بين كلّ من لاكان ودو سوسور على تشديد آنَفية البعد البنيوي (أي الملموس) للغة وسؤدده المنطقي على بعدها المفهومي (أي المجرَّد)، ذلك الاتفاق الذي يستوحي لاكان من خلاله ثنائية دو سوسور الشهيرة الرابعة "اللغة-الكلام" ويعلق عليها الأهمية الأكبر، في إطار منهجه، لكي يضع تمييزًا آخر بين "اللغة" على أنها نظام مادي محسوس بخصوصيّته، من جهة، وبين "اللسان" على أنه نظام معنوي مدرَك بعموميّته، من جهة أخرى، ولكي يؤسّس، من ثمّ، ثنائيّته "اللسان-الكلام"، بدلاً من ثنائية "اللغة-الكلام" (بحيث يوحي مصطلحه الجديد "اللالغة" إلى تلك النواحي العَصِيّة للغة التي يتعذّر قولها أو إبلاغها). إذ إن ما يحثّ لاكان على هذا التمييز، في المقام الأولي، هو الارتئاء الجزمي بأن مكنون اللسان، لسان الحال، لا مكنون اللغة، لهو الذي يمثّل الأسلوب اللاواعي للوجود اللغوي على النقيض من مبثوث الكلام فليس له سوى أن يجسّد الأسلوب الواعي لهذا الوجود. يدلّ ذلك على أن انقسام المسند إليه بين ضمير المتكلم المفرد اللاواعي (في البيان التلفظي) وبين ضمير المتكلم المفرد الواعي (في البيان التصريحي) ليمكن تفسيره الآن بمغزى انقسامه أو انشطاره بين مكنون اللسان وجُوّانيّته وبين مبثوث الكلام وبرّانيّته، على التوالي، ناهيك عن انقسامه أو انشطاره بين عالم الدوالّ في المنظم الرمزي وبين عالم المدلولات في المنظم الخيالي. فلدى اقتناعه (أي لاكان) التامّ بالتوفيق العلمي بين نهج فرويد في ماهية النفس الإنسانية (أي عَمْده إلى استكناه لغة اللاوعي وما تبتنيه) وبين نهج دو سوسور في ماهية اللغة الإنسانية (أي سَعْيه إلى استكشاف لاوعي اللغة وما يقتنيه)، يبدو أن موضوعة لاكان الأكثر شهرة، تلك الموضوعة القائلة بأن "اللاوعيَ مبنيٌّ كبنيان اللغة"، يبدو أنها موضوعة غالبًا ما أُسيءَ تفسيرها، في واقع الأمر، نظرًا لإمكانية اقتفاء أصولها في تنظير فرويد حول سيرورة العمل الحلمي. من هنا، فإن الحلمَ، بصفته تجلِّيًا من تجليات اللاوعي (مثله كمثل الدُعابة والعمل الزالّ والعَرَض المَرَضي-النفسي)، لَمبنيٌّ، أيضًا، كبنيان اللغة (أي كمصفوفة من الفونيمات أو وحدات التلفظ)، وذلك بفضل قابليّته للقَصّ أو للحكاية، مثلما أن الأسطورةَ، بحسب مفهوم ليڤي-شتراوس، مبنيّةٌ كبنيان اللغة (أي كمصفوفة من الميثيمات أو وحدات التأسطر)، وذلك بمقتضى قابليّتها للسَّرْد أو للرواية. ومن هنا، كذلك، يتبدّى مصطلح لاكان الجديد "اللالغة" على أنه "متّصل" يشير إلى تلك النواحي العَصِيّة للغة التي لا تقبل القصّ/الحكاية ولا تقبل السرد/الرواية، كما هي الحال في "المتعذِّر تعبيره" (أو "المتعذِّر وصفه")، بحسب مفهوم بيرغسون. أخيرًا، يتجلّى الدالّ كماهية تستحوذ استحواذًا لا رحمة فيه على الفحوى النفساني لكينونة المسند إليه، برمّتها، في ذات اللحظة التي ينطق إبانها بكلمة (أو لا ينطق) أو يدلّ على فكرة أو شيء (أو لا يدلّ). إذ يتكشف هذا الاستحواذ عن تكوين فجوة لا تُجْسَر بين ما يعنيه المسند إليه "قسرًا" إزاء تقوُّله الواعي في البيان التصريحي، من طرف، وبين ما يعنيه "طوعًا" حيال تفوُّهه اللاواعي في البيان التلفظي، من طرف آخر. وذلك لأن لغة الرغبة لا تسير، حقيقةً، تسيار بنىً لغويةٍ "مرئية" في مستوى الكلام، بل تسير، بالحري، تسيار بنىً لغويةٍ "لامرئية" في مستوى اللسان، وإلا فسوف يصير بها المصير إلى استحالة التقوُّل أو استحالة التفوُّه في مستوى اللالغة. وبالتالي، لا يوجد الإنسان، بادئ ذي بدء، ككائن يتمتع باستقلاله ثمّ يدخل، بعدئذٍ، في عوالم الدوالِّ ككائن لا يتمتع باستقلاله: إن الإنسان لا يبرز إلى حيِّز الوجود إلا في عوالم الدوالِّ ومن خلال هذه العوالم، نظرًا لأن دُنى الكلمات، في حدّ ذاتها، لهي التي تبتكر دُنى الأشياء. و"إنها الكلمة الكلمة، يقينًا، لهي التي كانت في البدء".

*** *** ***

المراجع

Benveniste, E. (1966): Problems in General Linguistics. Trans. M. Meek. Miami: M.U.P. (1971).

Bergson, H. (1934): La Pensée et le Mouvant. [The Creative Mind]. Trans. M. L. Andison. New

York: Philosophical Library (1946).

Chomsky, N. (1957): Syntactic Structures. The Hague: Mouton.

Chomsky, N. (1965): Aspects of the Theory of Syntax. Cambridge: M.I.T.

Chomsky, N. (1981): Lectures on Government and Binding. Dordrecht: Foris.

Chomsky, N. (1986): Knowledge of Language: Its Nature, Origin and Use. New York: Praeger.

Chomsky, N. (1995): The Minimalist Program. Cambridge: M.I.T.

Chomsky, N. (2002): On Nature and Language. Cambridge: C.U.P.

Fink, B. (1997): A Clinical Introduction to Lacanian Psychoanalysis. Harvard: H.U.P.

Fink, B. (2004): Lacan to the Letter: Reading Écrits Closely. Minnesota: M.U.P.

Freud, S. (1887-1902): The Origins of Psychoanalysis. London and New York.

Freud, S. (1900): The Interpretation of Dreams. Penguin Freud Library, vol. 4.

Freud, S. (1915): The unconscious. Penguin Freud Library, vol. 11

Freud, S. (1915-7): Introductory Lectures on Psychoanalysis. Penguin Freud Library, vol. 1.

Freud, S. (1923): The Ego and the Id. Penguin Freud Library, vol. 11.

Freud, S. (1926): Inhibitions, Symptoms and Anxiety. Penguin Freud Library, vol. 10.

Freud, S. (1938): An Outline of Psychoanalysis. Penguin Freud Library, vol. 15.

Jakobson, R. (1956): Two aspects of language and two types of aphasic disturbances. In his

Selected Writings, vol. 2. The Hague: Mouton (1971:239-259).

Lacan, J. (1953-4): The Seminar. Book I. Freud’s Papers on Technique. Trans./Ed. J. Forrester.

Cambridge: C.U.P. (1988).

Lacan, J. (1955-6): The Seminar. Book III. The Psychoses. Trans. R. Grigg. Routledge (1993).

Lacan, J. (1956-7): Le Séminaire. Livre IV. La Relation d’Objet. Paris: Seuil.

Lacan, J. (1964): The Seminar. Book XI. The Four Fundamental Concepts of Psychoanalysis.

Trans. A. Sheridan. Vintage (1998).

Lacan, J. (1966a): Écrits: A Selection. Trans. A. Sheridan. Routledge (1997).

Lacan, J. (1966b): Écrits. Trans. B. Fink. Norton (2006).

Lacan, J. (1972-3): Le Séminaire. Liver XX. Encore. Paris: Seuil.

Lacan, J. (1975): Joyce le symptôme. In J. Aubert (ed.), Joyce avec Lacan. Paris: Navarin (1987).

Lacan, J. (1975-6): Le Séminaire. Liver XXIII. Le Sinthome. Est. J.-A. Miller, Ornicar?, vol. 6.

Lévi-Strauss, C. (1963): Structural Anthropology. Basic.

Lévi-Strauss, C. (1978): Myth and Meaning. Routledge.

el-Marzouk, Gh. (2007): الدمج / Identification. Damascus: Maaber. (In Arabic and English).

el-Marzouk, Gh. (2008): الأنا / The ego. Damascus: Maaber. (In Arabic and English).

el-Marzouk, Gh. (2009): المسند إليه / The subject. Damascus: Maaber. (In Arabic and English).

Russell, B. (1946): History of Western Philosophy. Routledge (1991).

de Saussure, F. (1916): Course in General Linguistics. Trans. W. Baskin. Collins (1974).


 

horizontal rule

[1] را: المرزوق، 2009.

[2]  قا: لاكان، 1966 آ، ص 129؛ لاكان، 1966 ب، ص 384؛ را: أيضًا، المرزوق، 2009، الحاشية: 9.

[3] قا: لاكان، 1966 آ، ص 269؛ لاكان، 1966 ب، ص 530.

[4] قا: لاكان، 1966 آ، ص 288؛ لاكان، 1966 ب، ص 581.

[5] قا: لاكان، 6-1955، ص 23.

[6] را: المرزوق، 2008.

[7] را: المرزوق، 2009.

[8] قا: لاكان، 1966 آ، ص 200؛ لاكان، 1966 ب، ص 456.

[9] را: المرزوق، 2007.

[10] كما تمّ ذكره في مقال سابق، ثمّة في التنظير اللاكاني ثلاثة مناظمَ، أو مَدْوَناتٍ registers، أساسية يمكن التوسُّع في أعمالها الذهنية، من منظورها التطوري، على النحو الآتي (را: أيضًا، المرزوق، 2007، الحاشية: 19): أولاً، المَنْظِم الخيالي the imaginary order: يدخل ضمن نطاق هذا المَنْظِم عالم المدلولات وتنشأ فيه، بدئيًّا، العلاقة النرجسية (الثنائية) بين الأنا (الشاهدة) والصورة المرآوية في طور المرآة، تلك العلاقةُ التي تنبني، في الأساس، على بنى الوهم والإغراء والمظاهر الخادعة. يتبيّن، إذن، أن المَنْظِم الخيالي، بمدلولاته، هو المَنْظِم الأقلُّ تطوُّرًا في سيرورة العمل الذهني، نظرًا لمِساسه بالتكوين البدائي للأنا (الشاهدة) عن طريق الدمج (= التماهي) الخيالي، الذي يشير، في البداية، إلى "دمج النفس (أي نفس الدامج) في الصورة المقدّسة للذات (الـ imago أو الأمَجية المرئية)"، ونظرًا لمِساسه، كذلك، بالتكوين الأقلّ بدائية للأنا المثالية the ideal ego تحت تأثير الإسقاط الخيالي، الذي يوحي، بعدئذٍ، إلى "إسقاط النفس (أي نفس المُسْقِط) على الصورة المقدّسة للذات" عينها (را: المرزوق، 2008، الحاشية: 28). ثانيًا، المَنْظِم الرمزي the symbolic order: يدخل ضمن نطاق هذا المَنْظِم عالم الدوالّ، بدلاً من عالم المدلولات، وتنشأ فيه، لاحقًا، العلاقة "الغيرية" (الضدِّية) بين الأنا (الشاهدة) والكائن الآخَر في إطار خطاب اللاوعي، تلك العلاقةُ التي تنبني، في الأساس، على بنية الرغبة في أثناء عقدة أوديب، وذلك لأن الدوالّ تفتقر إلى الوجود الإيجابي بحدّ ذاته. يتضح، إذن، أن المَنْظِم الرمزي، بدوالِّه، هو المَنْظِم الأكثرُ تطوُّرًا في سيرورة العمل الذهني، وذلك وفقًا لصلته بأي شكل من أشكال التمثيل البنيوي بالمعنى اللساني، تلك الصلة التي تُعزى "انفتاحيتها" إلى الصعوبة البالغة في تخيُّل فكرة "البنية" دونما تقييداتُ اللغة بوصفها متّصلاً محسوسًا ودونما سلبياتُ الدالّ باعتباره الوسيط الرئيسيَّ في سيرورة بثّ الكلام (قا: لاكان، 7-1956، ص 189)، ووفقًا لصلته، أيضًا، بالترسيخ الناضج للأنا (الشاهدة) من طريق الدمج (= التماهي) الرمزي، الذي يوحي، في النهاية، إلى "دمج النفس (أي نفس الدامج) في الصورة المقدّسة للآخَر (الـ imago أو الأمَجية الذهنية)"، ووفقًا لصلته، كذلك، بالتأسيس الأكثر نضجًا للمثال الأنوي the ego-ideal تحت تأثير الإشراب الرمزي، حيث تجسّد هذه الماهية النفسانية الانتقاضَ الجنسي الواعي لأشكال تركيز الطاقة النفسية cathexes على الشخص/الشيء، فتجسّد، من ثمّ، مساماتها العاطفية الواعية (را: أيضًا، المرزوق، 2008، الحاشية: 28). ثالثًا، المَنْظِم الواقعي the real order: ينتمي إلى نطاق هذا المَنْظِم عالمٌ يناقض المَنْظِم الخيالي، بمدلولاته، ويقاوم المَنْظِم الرمزي، بدوالِّه، في آنٍ واحد، فيُلمع، في خاتمة المطاف، إلى استحالة القول الحقيقي، عمومًا، استحالةٍ مردُّها في الأصل إلى كون المدلول ذا طبيعةٍ زائفة، من طرف، وكون الدالِّ ذا طبيعةٍ سلبية، من طرف ثانٍ. وهكذا، إذا تجلت "تداعيات" المَنْظِم الواقعي في نظام تفاضلي لدوالٍّ لها مدلولاتها، فليس لهذه "التداعيات"، عندئذٍ، سوى أن تفضحَ زيفية الأنا (الشاهدة) في المَنْظِم الخيالي، بناءً على التناقض والتغاير، وأن تكشفَ سلبية الأنا (الشاهدة) في المَنْظِم الرمزي، استنادًا إلى المقاومة والرفض. وبما أن الأنا (الشاهدة)، دون غيرها، تمثّل "المَقرَّ الحقيقي للحُصار (= الحَصَر النفسي)" (قا: فرويد، 1926، ص 244) أو تمثّل "المَقرَّ [الحقيقي] للأوهام" (قا: لاكان، 4-1953، ص 62)، فإن تلك "التداعياتِ" لا تسترسل دلالاتِها، إن جاز القول، إلاّ في كنف الاستحالة القولية أو الحيلولة دون قول الحقيقة (قا: لاكان، 4-1953، ص 66؛ لاكان، 1964، 167؛ لاكان، 1966 ب، ص 324). بيد أن هذه المناظمَ الثلاثة لا يتمّ النظرُ إليها باعتبارها مناظمَ تؤدّي أعمالها الذهنية بمعزل مطلق عن بعضها البعض، بل يجري النظرُ إليها على أنها مناظمُ يتداخل بعضها ببعض، في سيرورة العمل الذهني، ليُصارَ إلى وضع التوكيد على موضع، أو مواضع، التقائها النفساني. لهذا السبب، يعمد لاكان إلى تمثيل المناظم الثلاثة تمثيلاً طوبولوجيًّا في هيئة ما يُعرف بـ"العُجْرة البورومية" Borromean knot، تلك العجرة التي تستلزم ثلاث حلقاتٍ (أو ثلاثة مناظمَ، توسُّعًا)، بحيث تتواشج كلُّ حلقةٍ منها مع الحلقتين الأخريين، كما يتبيّن ذلك من الشكل التالي (قا: لاكان، 3-1972):

 

[11] را: المرزوق، 2007؛ المرزوق، 2009، الحاشية: 9.

[12] را: أيضًا، المرزوق، 2007.

[13] را: أيضًا، المرزوق، 2008، الحاشية: 28.

[14] را: أيضًا، المرزوق، 2007.

[15] را: أيضًا، المرزوق، 2009.

[16] را: أيضًا، المرزوق، 2009، الحاشية: 9.

[17] لاحظ، هنا، أن من القضايا الأكثر جدلاً في إطار منهج لاكان في التحليل النفسي هي فكرة ما يُدعى بـ"الحتمية الأبوية" paternal determinism وافتراضها القَبْلي لمقصودية "التهميش الأمومي" maternal marginalization، تلك الفكرة التي يتردّد صداها أكثر فأكثر من خلال تنظير فرويد حول جنسانية الذكورة، على وجه التعميم. فمن جرّاء تنظير لاكان حول جنسانية الأنوثة، على وجه التحديد، تتأوَّج مقصودية "التهميش الأمومي"، بدورها هي الأخرى، في موضوعته الاستفزازية القائلة بأن "المرأة لا توجد في الواقع"، على الرغم من أن المغزى الفعلي من هذه الموضوعة هو نَفْيٌ تاريخيٌّ لوجود الأنثى في المَنْظِم الواقعي، ولكن ليس في المنظم الرمزي ولا في المنظم الخيالي، ناهيك عن توكيده (أي لاكان) على موضع، أو مواضع، الالتقاء النفساني لهذه المناظم الثلاثة، كما سبق ذكره (انظر الحاشية: 10). وناهيك، بطبيعة الحال، عن أن ثمة فارقًا نفسانيًّا حاسمًا بين جنسانية الذكورة وجنسانية الأنوثة، مع أن كلاًّ من هاتين الجنسانيتين يخضع للطور القضيبيphallic phase  ذاته في سلوكية الطفولة: ففي حين يتجسّد الفارق النفساني المعني بين الجنسانيتين، عند فرويد، في خشية الذكر الدفينة من عقدة الإخصاء the castration complex، من طرف، وفي رضوخ الأنثى الممضِّ لهذه العقدة، من طرف آخر (را: المرزوق، 2007)، يتمثّل الفارق النفساني المقصود بينهما، عند لاكان، في عُنْجُهية الذكر المتعنِّتة، ومن ثمّ تصنُّعه بـ"عنفوان" المِلكية القضيبية، من جهة، وفي نَأَلان الأنثى المُزَنَّم، ومن ثمّ تقنُّعها بـ"أفعوان" الكينونة القضيبية، من جهة أخرى. وهكذا، فيما يبدو، تتجلى عقدة الإخصاء، بحسب مفهوم لاكان، على أنها سيرورة رمزية تقتضي تبيُّنَ ما يسمّيه بـ"العازة الأصلية (أو البدائية)" primordial lack، بدلاً من أن تستلزم الموت البيولوجي لعضو الذكر (أو لبظر الأنثى، توسُّعًا). يعني ذلك أن الذكر والأنثى كليهما مُخْصَيان إخصاءً رمزيًّا، وأن الذكورة والأنوثة كلتيهما لفكرتان إن هما إلاّ مبتنيان دلاليّان في حدَّ(ي) ذاتيهما، مبتنيان دلاليّان ليس لهما أساسٌ تشريحيٌّ، البتة. ويعني ذلك، أيضًا، أن على المسند إليه، لكي يتمّ استقلابُ تلك العازة الأصلية (أو البدائية)، أن يجد ذاته قائمًا قبالة واحدٍ من مصيرين جنسانيين محتملين (أو كليهما): إما أن "يملك" المسندُ إليه الذكريُّ القضيبَ مَلْكًا كمالكٍ يتصنِّع ويتظاهر، على هذا النحو، بذكورته (إذ لم يتسنَّ للذكر، والحال هذه، أن يحتاز القضيب، في المقام الأول، لكي يَرْغَبَ ولكي يُحِبّ)، وإما أن "يكون" المسندُ إليه الأنثويُّ القضيبَ كَوْنًا ككائنٍ يتقنِّع ويتنكِّر، على هذا الشكل، بأنوثته (إذ ليس للأنثى، والحال هذه، سوى أن تنبذ جزءًا لايتجزَّأ من أنوثتها لكي تُرْغَب ولكي تُحَبّ). وفي كلٍّ من هذين المصيرين الجنسانيين، إذن، ينتصب القضيبُ للحكم بصفته دالاًّ يدلّ على العازة الأصلية (أو البدائية)، في حدّ ذاتها، أو بصفته دالاًّ يدلّ على رغبة الآخَر (الكبير) Other، على حدّ تعبير لاكان، دالاًّ يعمل، في البدء، كشيءٍ خيالي لدى الظنِّ بقابلية إشباعه رغبةَ الأمّ/الأنثى، فيعمل، من ثمّ، كشيءٍ رمزي بعد اليقين باستحالة إشباعه هذه الرغبةَ، في الحقيقة (قا: لاكان، 1966 آ، ص 289 وما يتبعها؛ لاكان، 1966 ب، ص 545 وما يتبعها). وبالتالي، تتبدّى عقدة الإخصاء كهُوّةٍ توتُّرية لا تُسَدُّ بين معنى الهُوية النفسية للمسند إليه، من جانب، وبين معنى هُويّته الرمزية، من جانب آخر، هُوّةٍ توتُّرية ليس لأيّ دالٍّ أن يمثّلها تمثيلاً واقعيًّا سوى ذلك القضيب المُشَيَّأ تشييئًا رمزيًّا، بعد تشييئه الخيالي، القضيب المتصنَّع/المتظاهَر (بمَلْكِه) والمتقنَّع/المتنكَّر (بكَوْنِه)، أو، بالحري، سوى ذلك الدالّ الأصلي (أو البدائي)، بدلالته القضيبية، على أنه الجدُّ "الأسطوريُّ" للدوالّ الضمن-لغوية برمّتها، كما تمّ ذكره في النص.

[18] قا: دو سوسور، 1916، ص 66 وما يتبعها.

[19] قا: فرويد، 1915، ص 221؛ را: أيضًا، المرزوق، 2007، الحاشية: 6.

[20] قا: فرويد، 1923، ص 363.

[21] قا: فرويد، 1900، ص 403، ص 690 وما يتبعها.

[22] قا: فرويد، 1887-1902، الرسالة: 52.

[23] قا: دو سوسور، 1916، ص 120.

[24] قا: دو سوسور، 1916، ص 124 وما يتبعها.

[25] قا: لاكان، 6-1955، ص 185.

[26] قا: لاكان، 1964، ص 207.

[27] من الجدير بالذكر، هنا، أن إصرار لاكان العنيد على الرأي القائل بأن المعنى في حالة من التبدّل والتغيّر المتواصلين يعكس، بشكل أو بآخر، نزعته المادّية في إطار منهجه في التحليل النفسي (قا: لاكان، 7-1956، ص 288 وما يتبعها). إذ يعود تاريخ هذا الرأي، في حقيقة الأمر، إلى الفيلسوف اليوناني ما قبل السقراطي هِرَقليط (حوالى 540 ق. م.-480 ق. م.) الذي نادى بموضوعته الشهيرة القائلة بأن "كلّ شيء في حالة من التبدّل والتغيّر المتواصلين"، تلك الموضوعة التي نالت استحسان أرسطو (384 ق. م.-322 ق. م.)، فيما يبدو، من خلال وصفه إياها في عبارته القائلة بأن "لا شيءَ في حالة من الثبات والرسوخ" (قا: رسل، 1946، ص 63). وهكذا، من الجلي أن كلاًّ من فرويد ولاكان يسعى إلى تطبيق هذا المبدأ على نظرية المعنى، وما يترتب عليها من نتائج، في إطار منهجه في التحليل النفسي. وعلى النقيض من ذلك، فإن الموضوعة القائلة بأن "المعنى ثابت ثباتًا صارمًا" يرجع تاريخها، في واقع الأمر، إلى فيلسوف يوناني ما قبل سقراطي آخر، بَارمنيد (حوالى 515 ق. م.-450 ق. م.)، ذلك الفيلسوف الذي يقول عنه برتراند رسل وفاقًا لكلّ من فرويد ولاكان، كذلك: "يفترض بارمنيد بأن الألفاظ [أو الدوالّ، توسُّعًا] لها معنىً ثابت؛ ذلك، حقًّا، هو الأساس [الذي تنبني عليه] مناظرته، والذي يظن أنه لا مِراءَ فيه. ولكن، على الرغم من أن المعاجم أو الموسوعات تقدّم ما تمكن تسميته بالمعنى الرسمي والمُباح اجتماعيًّا للفظ [أو الدالّ]، ما من شخصين يستخدمان اللفظ [أو الدالّ] ذاته يضمران في نفسيهما الفكرة ذاتها تمامًا" (قا: رسل، 1946، ص 68). ولأسباب مناقضة كل التناقض، دون غيرها، يظهر أن التلميذ السقراطي أفلاطون (حوالى 428 ق. م.-347 ق. م.) كان قد تبنّى موضوعة بارمنيد مخالفًا، بذلك، موضوعة هرقليط الآنفة الذكر (قا: رسل، 1946، ص 165): إذ تأوَّج هذا التبنّي في نظرية أفلاطون الشهيرة، نظرية المُثُل (كمثال المرأة الكاملة ومثال الرجل الكامل، إلخ). وفضلاً عن ذلك، يبدو، أيضًا، أن نظرية المُثُل هذه لهي النظرية التي كان لها التأثير المباشر على نظرية الأنماط (البَدْئية) عند كارل غوستاف يونغ (كنمط المرأة الحكيمة ونمط الرجل الحكيم، إلخ)، والتي كان لها التأثير المباشر، كذلك، على نظرية الأشياء (القياسية) عند ميلاني كلاين (كشيء الثدي الصالح وشيء العضو الطالح، إلخ).

[28]  قا: لاكان، 1966 آ، ص 175؛ لاكان، 1966 ب، ص 439.

[29] قا: فرويد، 1900، ص 414 وما يتبعها؛ فرويد، 7-1915، ص 208 وما يتبعها؛ إلخ.

[30] قا: لاكان، 1966 آ، ص 175؛ لاكان، 1966 ب، ص 439.

[31] قا: فرويد، 1900، ص 383 وما يتبعها؛ فرويد، 7-1915، ص 205 وما يتبعها؛ إلخ.

[32] قا: يعقوبسون، 1956.

[33] قا: بيرغسون، 1934، ص 205.

[34] قا: يعقوبسون، 1956، ص 239 وما يتبعها.

[35] قا: فرويد، 1915، ص 222.

[36] قا: يعقوبسون، 1956، ص 258.

[37] وفي هذه القرينة، مع ذلك، يُؤمل من القارئ ألا يخلط خطأً بين الدلالتين "المَجازيّتين" للانزياح والتكاثف في سيرورة العمل الحلمي، تحديدًا، وبين دلالتيهما "الحرفيّتين" في سيرورة الاستقلاب اللغوي. فبالنظر إلى موضوعة لاكان القائلة بأن "اللاوعيَ مبنيٌّ كبنيان اللغة"، كما سيتمّ تفصيلها في النص بعد قليل، وعلى فَرْض أن الحلم هو تجلٍّ من تجليات اللاوعي (مثله، في ذلك، كمثل االدُعابة والعمل الزالّ والعَرَض المَرَضي-النفسي)، فإن "للحلم بنيةً كبنية الجملة النحوية أو [....] كبنية التكْنِية التصويرية rebus"، كذلك (قا: لاكان، 1966 آ، ص 57؛ لاكان، 1966 ب، ص 221). يتضح، إذن، أن لغة الحلم، من هذا المنظور، لها نحوُها الخاصّ ودلالتها الخاصّة، ذانك المكوِّنان اللغويان اللذان يتمّ تحديدهما بمقوِّمَي الانزياح والتكاثف، على الترتيب: فبينما يشير "الانزياح النحوي" إلى تلك التمثيلات "النحوية" التي تتعلق بالتركيب المادّي للجملة الحلمية وبمواضع دوالِّها اللاواعية، سواء كانت هذه الدوالّ ظاهرة أم مقدَّرة أم مُضْمَرة أم غير ذلك، يدلّ "التكاثف الدلالي" على تلك التمثيلات "الدلالية" التي تتصل بالتركيب المعنوي للجملة الحلمية ذاتها وبمستويات مدلولاتها اللاواعية، بالأخصّ حين تتشعَّب هذه المستويات بتشعُّب الصور البلاغية (أو البيانية) المُستحضَرة. لاحظ، من هذا الخصوص، كيف يعمد لاكان إلى تفسير الوجود البلاغي (أو البياني) للغة الحلم، وذلك استنادًا إلى تعاليم فرويد. يقول لاكان: "تلكم هي تمثيلات الانزياح النحوي: الإضمار ellipsis والحشو pleonasm والتقديم (أو الاشتغال) hyperbaton والتنازع (أو التعانق) syllepsis والتأخير (أو الارتداد) regression والتوكيد اللفظي (أو القَصْدي) repetition والبَدَل (أو عطف البيان) apposition، [إلخ]. وتلكم هي تمثيلات التكاثف الدلالي: الاستعارة metaphor والمَجاز اللَّحْني (أو التعسُّفي) catachresis والمَجاز الاسمي (أو التلقُّبي) antonomasia والمَجاز المُسْنَد allegory والكناية metonymy والمَجاز المُرْسَل synecdoche، [إلخ]. يعلِّمنا فرويد كيف نستقرئ فيها [أي تمثيلات الانزياح النحوي والتكاثف الدلالي] تلك النوايا التي يسخِّرها المسند إليه في تعديل (أو "توليف") خطابه الحلمي، سواء كانت هذه النوايا تفاخرية أم إثباتية أم تظاهرية أم إقناعية أم انتقامية أم إغرائية" (قا: لاكان، 1966 آ، ص 58؛ لاكان، 1966 ب، ص 221 وما يتبعها). وهكذا، يتبيّن الآن أن قوّتي الكناية والاستعارة كلتيهما تعملان في معيّة بعضهما البعض وفقًا لآلية التكاثف بدلالته "الحرفية" في سيرورة الاستقلاب اللغوي، في حين أن هاتين القوّتين تعملان بمعزل عن بعضهما البعض تبعًا لآليّتي الانزياح والتكاثف، على الترتيب، بدلالتيهما "المَجازيّتين" في سيرورة العمل الحلمي.

[38] قا: لاكان، 6-1955، ص 229.

[39] قا: دو سوسور، 1916، ص 113.

[40] قا: دو سوسور، 1916، ص 77.

[41] قا: لاكان، 1966 آ، ص 30 وما يتبعها؛ لاكان، 1966 ب، ص 197 وما يتبعها.

[42] من القمين بالذكر، في هذا الصدد، أن ثنائية دو سوسور "اللغة-الكلام" langue-parole، في إطار منهجه في التحليل البنيوي، لجِدُّ قابلةٍ للمقارنة بثنائية تشومسكي "المَلَكة-الأداء" competence-performance، في إطار منهجه في التحليل التوليدي، على الترتيب، حيث يشدّد هذا الأخيرُ على البعد النفسي للغة، بمفهومه الاستبطاني عن المَلَكة اللسانية linguistic competence، تشديدًا أكثر منه حتى على البعد الاجتماعي لها (أي للغة). فمن خلال نظرته (أي تشومسكي) إلى اللغة باعتبارها نظامًا ابتكاريًّا لقواعدَ متناهيةٍ (قا: "نظام الدواليل التفاضلي" عند دو سوسور و"نظام الدوالّ التفاضلي" عند لاكان)، يرى تشومسكي أن المَلَكة اللسانية، كمتّصل أو كسيرورة أُضْفِيَت عليهما قيمة مثالية، لمَلَكةٌ تجسِّد معرفة المتكلم الفطرية innate بلغته الأمّ، وأن ذلك النظامَ الابتكاري للقواعد المتناهية يمكِّن هذا المتكلمَ من إدراك، ومن ثمّ إنتاج، عددٍ لامتناهٍ من الجُمَل النحوية، بعموميّتها (قا: فكرة "العادات اللغوية" عند دو سوسور). وعلى النقيض من ذلك، ينظر تشومسكي إلى الأداء اللغوي linguistic performance بوصفه متّصلاً أو سيرورةً أُضْفِيَت عليهما قيمة مادّية، بدلاً من القيمة المثالية، وذلك لأنه أداءٌ يجسِّم التحقيقَ الفعلي، وإن كان تحقيقًا جزئيًّا، لمعرفة المتكلم الفطرية بلغته الأمّ تلك: إذ يمكن رصدُ هذا التحقيق الفعلي، حقيقةً، في المدى الملموس لما ينطقه المتكلم المعنيّ من القَوْلات الخِطابية، بخصوصيّتها (قا: فكرة "الأفعال الكلامية" عند دو سوسور). وعلى مدى أكثرَ من خمسين عامًا من تنظير تشومسكي حول ما هو معروف بـ"القواعد الشمولية" universal grammar، وهي الفترة الزمنية التي تحدّد سيرته الأكاديمية كعالم لغوي غزير المادّة لدى انتهاجه هذا المنهج، يكاد الأساس النظري لثنائيته "المَلَكة-الأداء" أن يكون الآن، في واقع الأمر، كما كان عليه أمس، منذ أن تمّ وضع هذا الأساس النظري، بادئ ذي بدء، في إطار الأنموذج الرئيسي الأوّل للقواعد الشمولية، ألا وهو: أنموذج القواعد التوليدية-التحويلية (قا: تشومسكي، 1957؛ تشومسكي، 1965). وفضلاً عن ذلك، فإن الأساس النظري لثنائية "المَلَكة-الأداء" ذاتها لا يزال له أثرٌ، والحال هذه، في التمييز الذي وضعه تشومسكي، فيما بعد، بين ما يسمّيه بـ"اللغة الباطنية" internal language وبين ما يدعوه بـ"اللغة الظاهرية" external language، على الترتيب، وذلك في إطار الأنموذج الرئيسي الثاني للقواعد الشمولية، ألا وهو: أنموذج المبادئ والمَناهي (قا: تشومسكي، 1981؛ تشومسكي، 1986). ففي حين أن اللغة الباطنية توحي إلى ذلك المتّصل اللساني أو تلك السيرورة اللسانية اللذين يتمّ تمثيلهما تمثيلاً باطنيًّا، وذلك على فَرْض أن اللغةَ المعنية خاصّيةٌ من خصائص العقل/الدماغ البشري، تشير اللغة الظاهرية إلى ذلك المتّصل اللغوي أو تلك السيرورة اللغوية اللذين يقترنان بمجتمع ما أو بمشترَك ما، وذلك على فَرْض أن اللغةَ المقصودة، والحال هذه، مستقلةٌ استقلالاً تامًّا عن مكنونات العقل/الدماغ البشري. وهكذا، فيما يبدو، فإن التمييز الذي وضعه لاكان بين "اللغة" langue و"اللسان" langage، كما أشير إليه في النص، ليقارب مقاربة مفهومية، على التوالي، ذلك التمييز الذي وضعه تشومسكي بين ما يسمّيه بـ"الكفاءة الوصفية" descriptive adequacy، الكفاءة التي تعنى بنظرية لغةٍ محدّدة من اللغات الإنسانية، وبين ما يدعوه بـ"الكفاءة الشرحية" explanatory adequacy، الكفاءة التي تهتمّ بنظرية القواعد الشمولية (أي نظرية اللغات الإنسانية بأسرها): إذ لا يزال هذا التمييز الأخيرُ مسألةً على بساط البحث، وذلك في إطار الأنموذج الرئيسي الثالث للقواعد الشمولية، ألا وهو: أنموذج الاشتقاق الحدّي الأدنوي (قا: تشومسكي، 1995؛ تشومسكي، 2002).

[43]  قا: لاكان، 6-1955، ص 167؛ لاكان، 1964، ص 20.

 

[44] قا: فرويد، 1900، ص 382.

[45] قا: بنڤينيست، 1966، ص 68 وما يتبعها.

[46] قا: فرويد، 1938، ص 398 وما يتبعها.

[47] قا: ليڤي-شتراوس، 1963؛ ليڤي-شتراوس، 1978.

[48] قا: لاكان، 3-1972، ص 126.

[49] قا: لاكان، 1975؛ لاكان، 6-1975؛ فينك، 2004، ص 83.

[50] قا: لاكان، 1966 آ، ص 49؛ لاكان، 1966 ب، ص 214؛ فينك، 1997، ص 20 وما يتبعها.

[51] قا: لاكان، 1966 ب، ص 6 وما يتبعها.

[52] قا: لاكان، 1966 آ، ص 61؛ لاكان، 1966 ب، ص 225.

             

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود