|
كشف النقاب عن القبالة
1 لعل أولى التساؤلات التي من الممكن أن يطرحها القارىء غير المطلع على ما تعنيه القبالة هو: ما هي القبالة؟ ومن هو صاحبها؟ وما هي تقسيماتها؟ وما هي تعاليمها الأساسية؟ ولماذا يتوجب علينا الآن وفي هذا الزمن الحاضر ترجمتها وشرحها؟ 2 سأبدأ بالإجابة على السؤال الأخير، لأن موجةً عارمةً من الفكر السرَّاني تنتشر اليوم في المجتمع؛ فالبشر الذين يفكرون بدأوا يعون واقع أن "هناك أمورًا في السماء والأرض تفوق كل ما حلمت بها فلسفاتهم"؛ وأخيرًا وليس آخرًا، لأن هناك شعورًا بأن الكتاب المقدس (التوراة)، الذي أسيء إليه أكثر من أي كتاب آخر، يتضمن ما لا يحصى من الفقرات الغامضة التي لا يمكن فهمها من دون مفتاح يوضِّح بعض معانيها. وهذا المفتاح نجده في القبالة. من هذا المنظور يعتبر هذا الكتاب مهمًا لكل دارسٍ للتوراة وللاهوت. فليسأل كل مسيحي نفسه السؤال التالي: "كيف بوسعي أن أفهم العهد القديم إن كنت أجهل كيف بني من قبل تلك الأمة التي كتبته؛ وإن كنت لا أعرف معنى العهد القديم، كيف بوسعي أن أفهم العهد الجديد؟". لأنه بمقدار ما نفهم فلسفة التوارة بشكل أفضل، بمقدار ما يتضاءل التعصُّب ويقلُّ عدد المتعصبين. من بوسعه أن يقدِّر مدى الضرر الذي يمكن أن يلحقه عشَّاق التعصب الذين يطرحون أنفسهم، الآن وأكثر من أي وقت مضى، كمعلمين للناس؟ كم من الانتحارات كان سببها الهوس الديني وما ينجم عنه من كآبة؟! وما أكثر ذلك الخليط من الهراء الدنس الذي يقدَّم وكأنه يحمل المعاني الحقيقية لكتب الأنبياء ولكتب القيامة! وحين توضع ترجمة، غير صحيحة بمعظمها للكتاب المقدس كأساس، تحت تصرف عقل ملتهب وغير متوازن، أية نتيجة بوسعنا أن نتوقع في المحصلة؟ لذلك تراني أتوجه بلا خوف إلى أصوليي ومتعصِّبي وقتنا الراهن قائلاً: لقد أنزلتم العلي اللامتناهي من عرشه واستبدلتموه بشيطان قوة غير متوازنة؛ واستبدلتم ألوهة النظام والمحبة بألوهة الفوضى والحسد؛ وحرَّفتم تعاليم من صُلِب. لذلك، ومن هذا المنظور، أصبح من الضروري ترجمة (وشرح) كتاب الإشراق، الذي لم يسبق له أن ترجم إلى لغة هذا البلد[1] ولا إلى أية لغة أوروبية أخرى. 3 يمكن تعريف القبالة بأنها العقيدة السرَّانية لليهودية. وتكتب بالعبرية קבלה (ق ب ل ه) التي يعود أصلها إلى كلمة קבל (ق ب ل) بمعنى "القبول". وهذه التسمية مردها أصلاً إلى تقليد التعاطي الشفهي مع العرفان السرَّاني، ذلك الذي غالبًا ما يرتبط بالتراث أو المنقول. 4 ولما كنا سنستخدم في بحثنا هذا العديد من الكلمات العبرية أو الكلدانية، ولما كان عدد العلماء المختصين باللغات السامية محدود، فقد ارتأيت أن أقدم جدولاً يبيِّن بسرعة ماهية الأحرف العبرية ومقابلها كلفظ وكقيمة رقمية. ولما كان لا يوجد في اللغة العبرية أو الكلدانية، وكذلك في اللغة اليونانية، فصل بين الحرف وبين العدد، فإننا نلاحظ أنه يوجد لكل حرف قيمة رقمية:
ومن هذا الواقع بوسعنا أن نستنتج أنَّ كل كلمة هي رقم، كما أنَّ كل رقم هو كلمة. وهذا ما يشار إليه في الكشوف، حين يجري الحديث عن "رقم البهيمة"، ذلك الذي يستند إليه التوافق بين الأرقام وبين الأحرف والمعروف بحساب الجمَّل (الذي هو التقسيم الأول للقباله الحرفية). لي عودة مرة أخرى إلى هذا الموضوع. وقد اخترت الحرف اللاتيني Q أي الـ"ق" للتعبير عن الحرف ק (أو "ق")، وهي سابقة يمكن أن نجدها في كتاب ماكس مولر الكتب المقدسة في الشرق. لأن على القارىء أن لا ينسى أن الأبجدية العبرية هي أبجدية أحرف صامتة، وأن الأحرف الصوتية غالبًا ما يعبَّر عنها بإضافة نقاط وإشارات إلى أسفل الأحرف. مشيرًا أيضًا إلى أن إحدى الصعوبات الأساسية للغة العبرية تكمن في الشكل المتشابه لبعض الأحرف كالواو ו، والزين ז، والنون حين تكتب في نهاية الكلمة ן. 5 أما فيما يتعلَّق بكاتب وبمنشأ القبالة فليس بوسعي أن أقدِّم أفضل من الملخَّص الذي قدَّمه الدكتور غينسبرغ تحت عنوان مقال في القبالة، موضحًا أولاً أن الكلمة قد نطقت بأشكال مختلفة، وأني اعتمدت منها تلك التي تبدأ بالقاف ק المتوافق أكثر مع اللفظ العبري الذي يعتمد الأحرف الساكنة. وهذا يقول أن القبالة هي... 6 "منظومة فلسفة دينية"، أو لنقل بشكل أدق، ثيوصوفيا، لم تترك فقط أثرها على شعب ذكي كالشعب اليهودي، إنما أسرت أيضًا عقول العديد من كبار مفكري المسيحية في القرنين السادس والسابع عشر، كما لفتت انتباه أكبر الفلاسفة وعلماء اللاهوت. وقد كان من كبار المتأثرين بها ريموند لولي، الباحث الميتافيزيائي والكيميائي (توفي عام 1315)؛ وجون رويشلين، الباحث الشهير الذي أعاد إحياء الاهتمام بالأدب الشرقي في أوروبا (ولد عام 1455 وتوفي عام 1522)؛ والفيلسوف والباحث الشهير جون بيكوس دي ميراندولا (1463-1494)؛ والفيلسوف الإلهي المتميز والفيزيائي كورنيليوس هنري أغريبا (1486-1535)؛ والفيزيائي والكيميائي الكبير جون بابتيست فون هيلمون (1577-1644)؛ إضافةً إلى أبناء بلدنا كالفيلسوف والفيزيائي الكبير روبيرت فلود (1574-1644)؛ والدكتور هنري مور (1614-1687). إن كل هؤلاء الرجال، وبعد أن بحثوا بلا كلل عن منظومة علمية تكشف لهم أعماق النضج الإلهي، وتبيِّن لهم الرابط الحقيقي الذي يجمع الأشياء ببعضها البعض، شعرت عقولهم بالرضى بعيد الاطلاع على هذه الثيوصوفيا، ما يجعل واقع حياز القبالة على اهتمام طلاب الفلسفة والأدب مقبولاً بسهولة. وهذا الاهتمام ليس محصورًا فقط بالمتعلمين وبالفلاسفة، إنما بوسع الشاعر أيضًا أن يجد فيها مواد وفيرة تساعده على ممارسة عبقريته السامية. وكيف لا يكون الحال هكذا فيما يتعلَّق بثيوصوفيا خلقها الله في الجنَّة، ورعاها واحتضنها ضيوفُ السماء المختارون، وحوفظ عليها على الأرض من قبل أبناء أقدس البشر. لذلك استمعوا إلى قصة ولادتها ونموها ونضوجها، كما رواها أتباعها. 7 في البدء لقَّن الله نفسه القبالة إلى مجموعة مختارة من الملائكة الذين أسسوا مدرسةً ثيوصوفيةً في الجنة. ثم بعد السقوط نَقَلَ الملائكة، وبكل سماحةٍ، جوهر هذه العقيدة السماوية، الذي يعني العودة إلى النبل والسعادة البدئيين، إلى ابن الأرض المتمرد. فانتقلت من آدم إلى نوح، ومن ثم إلى خليل الله إبراهيم الذي هاجر إلى مصر، حيث سمح بالكشف عن بعض عقيدته السرِّية. وبهذه الطريقة، عرف المصريون بعضًا منها، ما سمح لباقي أمم المشرق من إدخالها إلى قلب منظوماتهم الفلسفية. وتعلَّم موسى، الذي لُقِّن كامل حكمة المصريين، القبالة في الأرض التي ولد فيها، لكنه أصبح أكثر إتقانًا لها في البرِّية حيث لم يكرِّس لها فقط ساعات فراغه خلال السنوات الأربعين لتجواله، إنما تعلمها على يد أحد الملائكة. وبفضل هذا العلم السرَّاني، أصبح بوسع واضع الشريعة أن يحلَّ المشاكل التي واجهته خلال قيادته للإسرائيليين، وذلك رغم الترحال، والحروب، والصعوبات التي عاشتها الأمةُ. وبشكلٍ خفي، طرح مبادىء عقيدته السرِّية في الكتب الأربعة الأولى من أسفاره الخمسة ولم يضمِّنها في التثنية. كذلك لقَّن موسى الشيوخ السبعين أسرارَ عقيدته. وقد قام هؤلاء من ثم بنقلها من يد إلى يد. ومن الذين تشكَّلت منهم سلسلة هذا المنقول، التي لم تنقطع، كان داوود وسليمان أعمق من تلقن تعاليم القبالة. لكن أحدًا لم يتجرأ يومًا على كتابتها حتى كان سمعان بن يشوع الذي كتبها في زمن تدمير الهيكل الثاني... وبعد موته، قام ابنه الرابي أليعازر ومساعده الرابي أبا وتلامذتهم بجمع ما كتبه سمعان بن يوشع، فوضعوا ما أصبح يعرف بكتاب الإشراق أو الزوهر الذي يتضمن تعاليم القبالة. 8 تصنَّف القبالة عادة تحت أربعة عناوين هي: آ: القبالة العملية. ب: القبالة الموضوعية. ج: القبالة غير المكتوبة. د: القبالة العقائدية. 9 تتعاطى القبالة العملية مع الطلاسم والطقوس السحرية، ولا تدخل ضمن إطار هذا البحث. 10 أما القبالة الموضوعية، التي يجري التطرق لها في أماكن عدة، فإنه من الضروري التعرف على بعض مبادئها. وهي تقسم إلى ثلاثة أقسامٍ هي: الجمتريا أو حساب الجمَّل، والنطق أو النوطاريقون، والصمورة. 11 يمكننا القول إن الجمتريا، أو حساب الجمَّل، ترادف الكلمة اليونانية γραμματεια. وهي تستند، كما سبق وأشرت، على القيمة الرقمية للكلمات. ما يجعل الكلمات التي لها نفس القيمة الرقمية تفسِّر بعضها بعضًا، وهذا ينطبق أيضًا على الجمل. وهكذا فإن الحرف ש، أي ش، الذي قيمته الرقمية 300، له نفس القيمة التي نحصل عليها حين نجمع أحرف كلمتي روح الله (أو روح ألوهيم بالعبرية) أي רוח אלהימ؛ حيث ר = 200، وו = 6، وח = 8، وא = صفر، وל = 30، وה = 5، وי = 10، وמ = 40، ما مجموعه أيضًا 300. نفس الشيء فيما يتعلق بالكلمتين: أحد אחד، أي واحد، وأهبه אהבה، أي أحبه؛ حيث أن جمع أحرف الكلمتين هو 13. وأيضًا فإن مجموع كل من الكلمتين: مطرطون (اسم الملاك) وشداي (اسم الله) هو 314؛ ما يعني أنه بوسعنا رمزيًا استبدال الواحد بالآخر. حيث يقال إن الملاك مطرطون هو من قاد أبناء إسرائيل في البرِّية، وعنه تحدث الله قائلاً إن "اسمي متضمن فيه". وأيضًا، فيما يتعلَّق بحساب الجمل فإن تعبير "حتى يأتي شيلو" المأخوذ من (سفر التكوين 49:10) له نفس ترقيم كلمة المشيح أي 358. وكذلك فإن ترقيم عبارة "وإذا ثلاث رجال واقفون لديه" (سفر التكوين 18:10) له نفس قيمة العبارة وهم ميخائيل، جبرائيل ورفائيل أي 701. وأعتقد أن هذه الأمثلة تكفي لتوضيح ماهية حساب الجمَّل، آخذين بعين الاعتبار أن أمثلة أخرى ستلي في سياق هذا البحث. 12 أمَّا النوطاريقون، أو مجازًا النطق، فهو كلمة مشتقة من الكلمة اللاتينية nothrius وقد اختزلَها الكاتبُ، ولها شكلان. في الشكل الأول نعتبر كل حرف من الكلمة وكأنه الحرف الأول أو الاختزال لكلمة أخرى، بحيث أنه، ومن جمع الكلمات المتكونة من أحرف كلمةٍ معينة، يكون بوسعنا تشكيل جملة. وهكذا فإننا إذا أخذنا كل حرف من كلمة في البدء (براشيت بالعبرية בראשית) ككلمة أساسية لحصلنا على الجملة التالية التي تقول (بيراشيت راى ألوهيم شيقبلو إشرائيل توراه)، أي "في البداية رأى ألوهيم أن إسرائيل ستقبل التوراة". من هذا المنطلق، بوسعي أن أقدم ستة نماذج من النوطاريقون يمكن استخلاصها من نفس الكلمة براشيت، وقدَّمها سالومون مائير بن موشي، وهو قبالي يهودي اعتنق الإيمان المسيحي عام 1665، وأصبح اسمه بروسبير روجيرز[2]. وهذه لها جميعها توجه مسيحي، وبواسطتها تمكَّن روجيرز من إقناع يهود آخرين بأن يعتنقوا المسيحية بعد أن كانوا معارضين لها بشدة. وهذه العبارات هي: · العبارة الأولى بالعبرية هي "بن، روح، آب"، شالوشهيتيم يهاد تهميم، أي الابن والروح والآب ثالوث مكتمل في وحدته. · والثانية بالعبرية هي "بن، روح، آب"، شالوشهيتيم يهاد تعبودو، أي الابن والروح والآب ثالوث متساو في الجوهر. · والثالثة بالعبرية هي "بكري راشوني أشير شامو يشوع تعبودو"، أي ستعبدون ابني البكر الذي اسمه يسوع. · والرابعة بالعبرية هي "بيوباع رابان أشير شامو يشوع تعبودو"، أي حين سيأتي المعلم الذي اسمه يسوع فستسجدون. · والخامسة بالعبرية هي "بيتولا رافياه أبكار شيتاليد يشوع تاكيلوه"، أي سأختار عذراء لتلد يسوع وستكون ممجدة. · والسادسة هي "بوغوت راتزيفيم أساتار شيغوبي يشوع تاكيلو"، أي سأستتر في قطعة خبز وستأكلون جسد يسوع. أما فيما يتعلق بالأهمية القبالية لهذه العبارات المتأثرة بالعقيدة المسيحية فهي مبالغ بها بالتأكيد. 13 والشكل الثاني من النوطاريقون هو تمامًا عكس الأول. وبالتالي، فإننا من هذا المنظور، نأخذ الأحرف الأولى أو النهائية، أو كليهما، أو الأحرف الوسطى من جملة، ونشكِّل منها كلمة أو كلمات. وهكذا فإن القبالة التي تعني الحكمة السرِّية أي חכמה נסתרה، أو "حكمه نستره" بالعبرية، تصبح، إن أخذنا الحرف الأول من كلٍّ من الكلمتين، أي ח وנ = חנ، حن أو نعمة. وكذلك فإن الأحرف الأولى والأخيرة لعبارة "مَنْ يَصْعَدُ لأَجْلِنَا إِلَى السَّمَاءِ" (التثنية 30 – 12)، أي "ميلاه لينو هاشامايما" بالعبرية، تعطينا كلمة מילה، أي ميله، التي تعني الختان، ما قد يعني أن ي ه و ه (أي الله) أمر بالختان كطريق موصل إلى السماء. 14 أمَّا الصمورة فهي تعني التبديل. فوفق بعض القواعد يتم استبدال حرف من أحرف الأبجدية بحرف آخر يسبقه أو يليه. وهكذا، من كلمة معينة، نحصل على كلمة أخرى ذات تهجئة مختلفة تمامًا. وهكذا تقسم الأبجدية إلى نصفين، ويتم ترتيبها بحيث يوضع النصف فوق الآخر ومن ثم، حين نبدل بالتتالي الحرف الأول أو الحرفَينِ الأوَّلَينِ في بداية الخط الثاني، نحصل على اثنين وعشرين تبديلاً. وهذه الطريقة تدعى جدول التصريف أو الصيروف צירופ. وعلى سبيل المثال، سأعطي إحدى طرقها التي تدعى بالعبرية البت אלבת، كما يلي:
حيث تأخذ كل طريقة اسم زوج الحرفين الأولين التي تتألف منها، فتكون منظومة الحرفين المزدوجين هي أساس المنظومة ككل، حين يتم استبدال زوج بحرف آخر. وهكذا، فيما يتعلق بـالبت يمكننا من الكلمة روح רוח أن نحصل على كلمة دصع דצע. وتكون أسماء الطرق الاثنتين والعشرين الأخرى هي: أ ب ج ت، أ ج د ت، أ د ب ج، أ ه ب د، أ و ب ه، أ ز ب و، أ ح ب ز، أ ط ب ح، أ ك ب ي، أ ل ب ك، أ م ب ل، أ ن ب م، أ س ب ن، أ ع ب س، أ ف ب ع، أ ص ب ف، أ ك ب ص، أ ر ب ق، أ ش ب ر، التي تضاف إليها طرائق أ ب ج د، وأ ل ب م. بعد ذلك يأتي "جدول الصرف المنطقي" المؤلف من مجموعة أخرى من اثنين وعشرين احتمالاً. وهناك أيضًا "جداول التبديل" الثلاثة، المعروفة باسم الصحيح والنافر وغير النظامي. وهكذا للقيام بأي من هذه التركيبات، يُرسم مربع كبير مقسم إلى 484 مربع صغير، وتوضع الأحرف في داخله. ففيما يتعلق بـ"الجدول الصحيح"، توضع الأبجدية من اليمين إلى اليسار؛ وفي الخط الثاني نفعل الشيء نفسه لكن نبدأ بحرف الراء وننتهي بحرف الألف؛ وبالخط الثالث نبدأ بحرف الجيم وننتهي بحرف الباء؛ وهكذا. أمَّا فيما يتعلق بالـ"جدول النافر" فنكتب الأبجدية من اليمين إلى اليسار بدءًا من حرف التاء وننتهي بحرف الألف؛ وفي الخط الثاني نبدأ بحرف الشين وننتهي بحرف التاء؛ وهكذا. أمَّا بالنسبة للـ"جدول غير النظامي" فسيطول الشرح. وإلى جانب هذه الطرق، هنالك طريقة تدعى تشرق وفيها يتم كتابة الكلمة بالمقلوب. كما توجد أيضًا طريقة هامة جدًا تدعى بـقبالة الحجرات التسع، أو "أيق بكر"، وهي على الشكل التالي:
وقد وضعت ترقيم كل حرف أعلاه لأبيِّن التقارب بين الأحرف في كلِّ حجرة. وهذه الطريقة تستعمل أحيانًا للتشفير من خلال أخذ أجزاء من الشكل لتبيان الأحرف التي يتضمنها، واضعين نقطة (أي صفر) للحرف الأول، ونقطتان للحرف الثاني،... إلخ. وهكذا، فإن المجموعة الأولى المتضمنة على الحرف أ ي ق ستقرأ كقاف إن تضمنت ثلاث نقاط. نفس الشيء فيما يتعلق بالمجموعة التي تحتوي الأحرف ه ن ـك، فتقرأ على أساس النقاط التي تتضمنها. لكن هناك أيضًا طرق كثيرة لاستعمال قبالة الحجرات التسع، لا مجال لدي هنا لاستعراضها. لذلك سأكتفي بإعطاء مثال صغير؛ فما نقرأه في الإصحاح الخامس والعشرين لأرميا وفق طريقة التبديل أي الصمورة "أتبش ششك" تعني "ببل" (أي بابل). 15 وإلى جانب كلِّ هذه القواعد هنالك معانٍ خاصة تتضمنها أشكال حروف الأبجدية العبرية؛ فشكل الحرف في نهاية الكلمة يختلف عن ذلك الذي يأخذه حين يكون حرف بداية، أو حرفًا يكتب في وسط الكلمة ويستخدم عادة في النهاية؛ أو حين يكتب بشكل أصغر من باقي حروف المخطوط، أو بشكل عشوائي؛ أو في التغيرات التي نجدها حين تهجئة بعض الكلمات التي تحتوي على حرف إضافي في أمكنة معينة ولا تحتوي عليه في أمكنة أخرى؛ أو في الخصوصيات التي قد نلحظها في توضُّع بعض النقاط والإشارات، وفي بعض العبارات التي يفترض أنها مجازية أو مكررة. 16 مثلاً شكل الحرف العبري ألف א يرمز إلى الواو ו حين تقع بين الياء י وبين الدال ד، وهكذا فإن الحرف بحد ذاته يمكن أن يعبر عن الكلمة يود יוד. وأيضًا فإن شكل الحرف هاء ה يرمز إلى دال وياء ד وי مكتوبة في أسفله من الجانب الأيسر، وهكذا. 17 وفي سفر أشعيا (9: 6-7) فإننا نجد في كلمة "لمربه" לםרבה، التي تعني لنموِّه، أن الحرف الثاني (في الكلمة العبرية)، أي الميم، قد كتب وكأنه الحرف الأخير بينما هو يقع في وسط الكلمة. ما يعني أننا إن جمعنا أحرف الكلمة فإنها، وعوضًا عن أن تكون 30 + 40 + 200 + 2 + 5 = 277، تصبح 30 + 600 + 200 + 40 + 5 = 837، ما يعني وفق حساب الجمَّل תתז (تتز) أي المانح بوفرة، ما يعطي الكلمة معنىً مختلفًا. 18 في سفر التثنية (6: 4) هناك الصلاة المعروفة "اسمع يا إسرائيل" (Shema Yisrael) وهي تبدأ هكذا "اسمع يا إسرائيل، ي ه و ه إلهنا، ي ه و ه واحد" (שמע ישראל יהוה אלהינו יהוה אחד)، وفيها نلاحظ أن الحرف ع ע من كلمة سمع (شمع) في النسخة العبرية، والحرف د ד من كلمة واحد (أحد)، كتبت بأحرف أكبر من باقي حروف النص. وتفسِّر الرمزية القبالية هذا النصَّ كما يلي: الحرف ع ע الذي قيمته 70 يعني أنه من الممكن تفسير الشريعة بسبعين طريقة مختلفة، بينما يدلِّل الحرف د ד الذي قيمته 4 إلى الاتجاهات الأربعة وإلى الأحرف الأربعة التي يتكون منها اسم الله. أمَّا الكلمة الأولى اسمع שמע التي قيمتها الرقمية 410 فهي تشير إلى مدة استمرارالهيكل الأول. مشيرين إلى أن هناك العديد من النقاط الأخرى التي تستحق التأمل في هذه الصلاة لكن الوقت لا يسمح لنا بالتأكيد عليها. 19 كما أن هناك أمثلة أخرى من التهجئة الناقصة أو الزائدة عن الحاجة، كذلك هناك بعض الخصوصيات للهجة والتنقيط... إلخ، التي سنجدها في أماكن مختلفة من النص الذي سيلي. 20 ملاحظة أخرى تتعلق بالكلمة الأولى من التوراة والتي هي في البدء – أي براشيت بالعبرية בראשית، تقول إن الأحرف الثلاثة الأولى من هذه الكلمة، أي "برا"، هي الأحرف الأولى الدالة على الثالوث الإلهي أي الابن – بن בנ، والروح רוח، والأب אב. وأيضًا، فإن الحرف الأول من التوراة هو حرف الباء الذي هو الحرف الأول من كلمة بركة ברכה، وليس حرف الألف الذي هو الحرف الأول لكلمة ארר "أرّ" التي هي شتيمة. وأيضًا فإن الجمع الرقمي لأحرف الكلمة يعطينا عدد السنين التي تفصل ما بين تاريخ الخليقة[3] وتاريخ ميلاد السيد المسيح؛ أي ב = 2000، وר = 200، وא = 1000، وש = 300، وי = 10، وת = 400، ما مجموعه كرقم مدور 3910 سنوات. أمَّا بيكوس دي ميراندولا فقد استخلص من كلمة براشيت ما يلي: إن وضعنا الحرف الثالث الذي هو الألف قبل الأول الذي هو الباء نحصل على كلمة أب אב. وإن ضاعفنا الحرف الأول أي الباء وأضفنا إليه الحرف الثاني نحصل على كلمة برّ בבר إي في (أو من خلال) الابن. وإن استثنينا الباء من الكلمة وقرأنا ما تبقى فإننا نحصل على راشيت ראשית التي معناها البدء. وإن جمعنا الأحرف: الرابع أي الشين، والأول أي الألف، والأخير أي التاء، نحصل على كلمة شبت أي السبت שבת وهو اليوم الأخير من الخليقة أو يوم الاستراحة. وإذا أخذنا الأحرف الثلاث الأولى أي برا ברא فإن هذه الكلمة تعني خَلقَ. وإن استثنينا الحرف الأول وأخذنا الأحرف الثلاث التي تليه نحصل على كلمة راش ראש أي رأس. وإن استثنينا الحرفين الأولين وأخذنا الحرفين التاليين فإن أش אש تعني النار. وإن جمعنا الحرف الرابع إلى الحرف الأخير نحصل على شت שת التي تعني الأساس. وأيضًا إن وضعنا الحرف الثاني قبل الأول، وأخذنا هذين الحرفين، فإننا نحصل على كلمة رب أي العظيم. وإنْ وضَعْنا بعد الحرف الثالث الحرفين الخامس والرابع نحصل على كلمة أيش איש التي تعني عيش أو الإنسان. وإن جمعنا الحرفين الأولين إلى الحرفين الأخيرين نحصل على بريت ברית التي تعني العهد. وإن وضعنا الحرف الأول بعد الحرف الأخير وأخذناهما معًا فإننا نحصل على كلمة تب תב التي تستعمل أحيانًا للتعبير عن الطيبة. 21 وإن أخذنا كلَّ ما سبق من جناس سرَّاني بترتيبه الصحيح، لوجدنا كيف استنتج بيكوس من كلمة براشيت، العبارة اللاتينية التالية: Pater in filio (aut per filium), principium et finem (sive quietum) creavit caput, ignem, et fundamentum magni hominis fœdere bono التي تعني من خلال الابن خلق الأب الرأس الذي هو البداية والنهاية، نار الحياة وأساس الإنسان الأعلى (آدم قدمون "أي القديم") من خلال العهد الصالح. وهي عبارة يمكن اعتبارها تلخيصًا موجزًا لـكتاب السرِّ الخفي. وهكذا نجد أننا وبهذا الملخص للقبالة الموضوعية قد تجاوزنا ما هو مسموح به. لكن كان من الضروري أن نستزيد في التوضيح بما يتناسب مع مقدار الفكر الميتافيزيائي للدراسة التي ستلي وتطبيقاتها. 22 ينطبق تعبير القبالة غير المكتوبة على بعض العرفان الذي لم يكتب إنما كان يتداول شفويًا. وليس بوسعي أن أقول المزيد حول هذا الموضوع، ولا حول أني قد تلقيت أو لم أتلقى هذا العرفان. مشيرين إلى أنه، وفي أيام الرابي شمعون بن يوشع لم يكن شيئًا من القبالة قد نشر أصلاً. 23 تتضمن القبالة العقائدية جانبًا مذهبيًا. مشيرين إلى أن القبالة تتألف من العديد من النصوص والأبحاث المتفاوتة من حيث الأهمية والتاريخ. لكن من الممكن حصرها تحت أربعة عناوين هي: آ. سفر يصيرة (أو كتاب التشكيل) وملحقاته. ب. كتاب الزوهر (أو الإشراق) وإكمالاته وتعليقاته. ج. سفر الأسفار وملحقاته. د. النار المطهرة ورموزه. 24 يُنسب كتاب التشكيل (أو سفر يصيره) إلى البطريرك إبراهيم. وهو يفسر نشأة الكون استنادًا إلى الأرقام العشرة والأحرف الاثنين والعشرين، التي تدعى بـ"الدروب الاثنين والعشرين". وقد كتب حولها الرابي أبراهام بن ديور لاحقًا تعليقًا باطنيًا. مشيرين إلى أن كلمة درب قد تستعمل في القبالة بالمعنى الهيروغليفي، أو لنقل كمجال فكري يرتبط بغلاف أو برمز. 25 أمَّا الزوهر (أو سفر الإشراق) فهو يتضمن، وإلى جانب العديد من الأطروحات الأقل أهمية، الكتب الأساسية التالية التي قمنا بترجمة الثلاثة الأولى منها وهي: - كتاب السرِّ الخفي (أو بالعبرية ספרא דצניעותא) الذي هو أساس كتاب الإشراق أو الزوهر. - المجمع المقدَّس الأكبر (أو بالعبرية אדרא רבא קדישא) الذي هو توسيع لـكتاب السرِّ الخفي. - المجمع المقدَّس الأصغر (أو بالعبرية אדרא זותא קדישא) الذي يمكن اعتباره ملحقًا للذي سبقه (أي للـ אדרא רבא). وهذه الكتب الثلاثة تبحث في التطور التدريجي لألوهة خلاَّقة بالإضافة إلى أنها تبحث في الخليقة. مشيرين إلى أن نصوص هذه الكتب قد شَرَحها كنور ڤون روزنروث (صاحب كتاب القبالة عارية The Qabalah Denudata) استنادًا إلى المخطوطات المانتوية، والكريمونانسية، واللوبلينانسية[4] المصححة والتي هي الأقدم؛ كذلك قمت بتقديم تعليقات تم تمييزها عن النص الحالي بكتابتها بين معترضات. وأيضًا هناك... - الأطروحة الروحية التي تدعى بيت الله (أو بالعبرية بت ألهيم בית אלהימ) والتي حررها الرابي أبراهام كوهين عريرا، استنادًا إلى تعاليم الرابي إسحق لوريا. وهي تبحث في الملائكة والشياطين وفي العناصر الروحية وفي النفس. و... - كتاب ثورات النفوس، وهو مقالة غريبة واستطرادية يمكن اعتبارها توسعًا في أفكار الرابي لوريا. 26 أمَّا كتاب الانبثاق أو سفر الأسفار (بالعبرية ספר ספירות أو سفر سفيروت) فهو، إن صحَّ القول، كتاب يبحث في التطور التدريجي للألوهة من حال الوجود السلبي إلى حال الوجود الإيجابي. 27 أمّا كتاب النار المطهِرة (بالعبرية אש מצרפ أو أش مصرف) فهو كتاب سرَّاني وخيميائي، معروف من قبل القلَّة ومفهوم من قبل قلَّة القلَّة. 28 تم وضع العقائد الرئيسة للقباله من أجل الإجابة على المسائل التالية: - الكائن الأسمى، طبيعته وصفاته. - نشأة الكون. - خلق الملائكة وخلق الإنسان. - طبيعة الروح. - طبيعة الملائكة والشياطين والعناصر. - أهمية الشريعة الموحى بها. - الرمزية المتسامية للأرقام. - الأسرار الخاصة التي تتضمنها الأحرف العبرية. - توازن الأضداد. 29 يبدأ كتاب السرِّ الخفي بالعبارة التالية التي تقول: "كتاب السرِّ الخفي هو كتاب توازن الميزان". فما هو المقصود بعبارة "توازن الميزان"؟ لأن التوازن هو التناغم الناجم عن تماثل النقائض، إي أنه النقطة الميتة التي يصبح فيها التعارض بين القوى المتواجهة متساويًا من حيث القوة، ما يؤدي إلى توقف الحركة. وهذا ما يجعل منها النقطة المركزية. تلك "النقطة المتواجدة في وسط الدائرة" وفق الرمزية القديمة. أو لنقل الشميلة الحية لطاقة متوازنة. وهو شكل يمكن تشبيهه بالتوازن بين الضوء وبين الظلِّ؛ فإن حذفنا واحدًا من الاثنين، يصبح الشكل غير مرئي. هذا ويطبق تعبير التوازن على الطبيعتين المتعارضتين لكل ثلاثي من ثلاثيات السفيروت (أو الأسفار)، فتوازنها يعطي السفر الثالث في كل ثلاثي. هذا وسأعود مرةً أخرى لأتناول هذا الموضوع حين سأشرح معنى الأسفار (أو السفيروت). مؤكدًا على أن عقيدة التوازن والميزان هي فكرة أساسية في القبالة. 30 ويتابع كتاب السرِّ الخفي فيقول: "يتدلى التوازن من المنطقة التي كان الوجود فيها سلبيًا". فما هي (هذه المنطقة) التي يعتبر الوجود فيها سلبيًا؟ وما هو الوجود الإيجابي؟ إن التمييز بين هذين المفهومين هو فكرة أساسية أخرى، خاصةً وأنه يستحيل تعريف ماهية الوجود السلبي، لأنه حين يكون بالإمكان تعريفه فإنه لن يبقى وجودًا سلبيًا، إنما سيصبح وجودًا سلبيًا تحوَّل إلى حالة السكون. لهذا، وبكلِّ حكمة، أغلق القباليون أمام الفهم البشري تلك الـأين الأولى אינ، التي التي سبقت الوجود، وأيضًا (أغلقوا) الـأين سوف אינ סופ، الذي هو التمدد اللانهائي؛ أمَّا فيما يتعلق بـأين سوف أور אינ סופ אור، الذي هو النور اللامتناهي، فإنه لن يكون بوسعنا أن نفهم منه إلا القليل. وبالتالي، إن تفكرنا بعمق، سنرى أنه هكذا يفترض أن تكون الأشكال البدئية لمن ليس من الممكن معرفته ولا تسميته، ذلك الذي نتحدث عنه بشكل جلي بوصفه الله. فهو المطلق. ولكن كيف بوسعنا تعريف المطلق؟ لأننا حتى حين نعتقد أننا نعرفه، فإنه سرعان ما يفلت من قبضتنا، لأنه لا يبقى مطلقًا إن عرَّفناه. هل علينا إذًا أن نقول بأن السلبي، أو اللامتناهي، أو المطلق هو مجرد هراء إن تناولناه من منظور المنطق؟ وذلك من منطلق أنه مجرَّد فكرةٍ ليس بوسع عقلنا أن يفهمها؟ كلا؛ لأنه إن كان بوسعنا تعريفه، فإننا سنجعله، إن صحَّ القول، مستوعبًا في فكرنا، وبالتالي لا يستطيع تجاوزه؛ لأنه كي يكون الموضوع قابلاً للتعريف فإن هذا يتطلب أن يكون بالإمكان حصره ضمن بعض المحدودية. وبالتالي، كيف بوسعنا أن نحدد ما ليس له حدود؟ 31 وهكذا فإن المبدأ والمسلَّمة الأولى في القبالة هو اسم الألوهة، ذلك المعبر عنه في المقطع الأول من كتابنا المقدس بـ "أنا هو الكائن" (بالعبرية أهيه أشِر أهيه אהיה אשר אהיה)، وهي عبارة إن ترجمناها بشكل أفضل تعني "الوجود هو الوجود" أو "أنا هو الكائن". 32 يقول إليفاز ليفي زاهد Eliphas Halevi، الفيلسوف والقبالي الكبير من هذا القرن (1810 – 1875)، في كتابه تاريخ السحر: يخاف القباليون من كل ما له علاقة بعبادة الأوثان؛ ورغم هذا، نجدهم يعطون للألوهة شكلاً إنسانيًا. لكن هذه الصورة هي مجرد شكل هيروغليفي صرف. فهم يعتبرون الله ذكيًا، وحيًّا، ولامتناهيًا في محبته. لكن الله بالنسبة لهم لا يشكِّل مجموع كافة الكائنات، كما أنه ليس وجودًا مجردًا، ولا كائنًا بوسعنا أن نعرِّفه فلسفيًا. إنما هو متواجد في كلِّ شيء، ومتمايز عن كلِّ شيء، وأكبر من كل شيء. فاسمه يتجاوز كلَّ وصفٍ. ورغم هذا يعبِّر هذا الاسم عن التصور الإنساني المثالي للألوهة. فماهية الله أمر يفوق تصوره إمكانيات البشر. فالله هو إيمان مطلق، كما أن الوجود هو فهم مطلق. فالوجود قائم بحد ذاته، لمجرد أنه موجود. ومبرر الوجود هو الوجود بحد ذاته. وبوسعنا أن نتساءل، لماذا هذا الشيء المحدد موجود يا ترى؟ بمعنى، لماذا يوجد هذا الشيء أو ذاك؟ لكن ليس بوسعنا أن نتساءل، لأن سؤالنا في هذه الحالة سيكون بلا معنى: لماذا يوجد الوجود؟ لأن هذا التساؤل يعني افتراض وجودٍ سابق الوجود. ويتابع المؤلف نفسه وفي الكتاب نفسه فيقول: إن قلت بأني سأؤمن إن أثبت لي بشكل علمي حقيقة العقيدة، كأن أقول بأني سأؤمن حين لن يبقى بالنسبة لي شيء أؤمن به، لأنه عندئذ ستتحطم العقيدة كعقيدة وتتحول إلى مجرد نظرية علمية. كأن أقول، بعبارة أخرى، إني سأعترف باللامتناهي، حين يكون بوسعي شرحه، وتحديده، وحصره ضمن إطار، وشكل يناسبني؛ ما يعني بكلمة واحدة أني سأعترف به حين يصبح محدودًا، أي أني سأعترف باللامتناهي حين أتأكد من أن اللامتناهي غير موجود، كما سأعترف بسعة المحيط حين سيكون بوسعي تعبئته في زجاجات. لأنه، حين يصبح الشيء مثبتًا ومفهومًا بالنسبة لك فأنت لا تؤمن به إنما – أنت تعرفه. 33 جاء في الباغافاغيتا[5]: أنا الخلود أنا الموت أيضًا؛ يا أرغونا! أنا ما هو موجود وما هو غير موجود. وجاء أيضًا[6]: انظر، يا وريث البهاراتا، إلى روعة الأرقام التي لم ترها من قبل. في داخل جسدي، أيها الجوداكيسا! انظر اليوم إلى كلِّ الكون المتضمن، ما يتحرك وما لا يتحرك، كل شيء في واحد. وأيضًا[7] يقول أرغونا: يا سيد الآلهة اللامتناهي! يا أيها المنتشر في الكون! أنت الأزلي، الموجود، وغير الموجود، وما بينهما. أنت الإله الأول، والواحد الأقدم، وأكبر دعامة لهذا الكون. بواسطتك عمَّ الكون، يا صاحب الأشكال التي لا تنتهي... أنت كلِّي القدرة، وذو قدرة غير محدودة، وذو مجد لا يقاس، أنت تنتشر في كل شيء، ولهذا أنت كل شيء! 34 عندئذ يمكن قبول فكرة الوجود السلبي السابق كفكرة تبقى غير قابلةٍ للتعريف، وذلك من منطلق أن التعريف كفكرة يتناقض أصلاً مع طبيعته. ولكن ربما يعترض بعض القراء قائلين: "إن تعبير الوجود السلبي السابق الذي استخدمته هو تعبير خاطئ؛ فالحالة التي وصفتها يمكن التعبير عنها بشكل أفضل بعبارة اللاوجود (أو ربما الوجود غير المرئي)". وأجيبهم بالنفي؛ لأن اللاوجود لا يمكن أن يكون سوى لا وجود؛ بمعنى أنه ليس بوسعه أن يتحول، ولا أن يتطور؛ ما يعني أن اللاوجود هو فعلاً وحقيقةً لا شيء. لهذا فإن اللاوجود لا يمكن أن يكون، وهو لم يكن على الإطلاق. أمَّا الوجود السلبي السابق فهو يتضمن الحياة مخبئةً بالقوة في داخله؛ لأنه في أعماق لانهائيته تكمن الطاقة التي تتيح للحياة بأن تنهض بحد ذاتها، وكذلك تكمن القدرة على إطلاق شرارة الفكر في قلب المطلق، وقدرة عكسه مجددًا نحو الداخل. وهكذا مستورةً ومحجوبة تكون الطاقة مستوعبة في لامركزية دوامة تمدُّد اللامتناهي. لهذا السبب استخدمتُ عبارة الوجود السلبي بدلاً من عبارة اللاوجود. 35 لكن لمَّا كان من المفترض وجود علاقة ما بين المفهومين المختلفين جدًا للوجود السلبي وللوجود الإيجابي، أي الرابط الذي يصل بينهما، فإن هذا يوصلنا إلى ما نسميه وجودًا بالقوة، ذلك المفهوم الذي يقترب أكثر من مفهوم الوجود الإيجابي الذي بالكاد يقبل تعريفًا واضحًا، لأنه الوجود في حالة الممكن. مثلاً، إن أخذنا البذرة، فإن الشجرة التي قد تنبثق منها ما زالت مستترة؛ لأنها في حال وجود بالقوة؛ فهي فيها؛ لكنها ما زالت لا تقبل التعريف. وكم أقل منها (قبولاً للتعريف)، بالتالي، بذورها التي ستثمر. فهذه البذور هي في حال يشبه بشكل ما الوجود السلبي، لكنه متقدم عنه مرحليًا إلى حد كبير، حيث بوسعنا القول إنه موجود سلبًا. 36 لكن، من جهة أخرى، فإن الوجود الإيجابي قابل دومًا للتعريف؛ لأنه متحرك، ويتمتع ببعض الطاقات المنظورة، ما يجعله بالتالي نقيضًا للوجود السلبي، وأقرب من حيث المفهوم إلى الوجود غير المرئي. فهو الشجرة التي لم تعد مختبئةً في البذرة، إنما باشرت الامتداد نحو الخارج. ولكن، لمَّا كان للوجود الإيجابي بداية ونهاية، أي أنه بحاجة إلى شكل آخر يستند إليه، فإنه من دون هذا المبدأ السلبي الذي يدعمه يبقى غير مستقر وغير مقنع. 37 هكذا إذًا أكون، وإن بشكل مبسط، حاولت بكل احترام أن أشرح لقرائي فكرة الواحد اللامتناهي. لكن قبل ذلك، ومن خلال هذه الفكرة، فإن ما بوسعي قوله، وعلى لسان ولي قديم، أن: في داخله هاوية مجد لا تنتهي، ومن هذه الهاوية انطلقت شرارة صغيرة تتضمن كل عظمة الشمس، والقمر والنجوم. يا أيها الفانون! تأملوا كم ضئيلة هي معرفتي بالله؛ ولا تحاولوا أن تعرفوا عنه المزيد، لأن هذا يتجاوز فهمكم إلى حدٍّ بعيد، ومع ذلك كم حكيم أنت، كما نحن المرسلين من قبلك، والذين ليسوا إلا جزءًا صغيرًا منك!. 38 هناك، وفق القبالة، ثلاثة حجب للوجود السلبي، وهي تتضمن بحد ذاتها الأفكار المخبأة في الأسفار التي لم تتحقق بعد، وهي مركزة في التاج Kether الذي هو ملكوت الأفكار المخبأة في الأسفار. سوف أشرح ما أعنيه بهذا. لأن أول حجاب للوجود السلبي هو الـأين אימ التي تعني السلبية. وتتألف هذه الكلمة من ثلاثة أحرف تظلِّل هذه الأسفار أو الأرقام الثلاثة الأولى. أمَّا الحجاب الثاني فهو أين سوف אימ סופ الذي يعني غير المحدود، وهو يتألف من ستة حروف وهكذا فإنه يظلِّل فكرة الأسفار أو الأرقام الستة الأولى. والحجاب الثالث هو أين سوف أور אינ סופ אור التي تعني النور اللامتناهي، وهو يتألف أيضًا من تسعة حروف، ويرمز للأسفار التسعة الأولى، لكن طبعًا بمعناها المستور. لكننا حين نصل إلى الرقم 9 فإنه ليس يكون بوسعنا التقدم من دون العودة إلى العدد واحد، لأن العدد عشرة هو تكرار لوحدة تم اشتقاقها من السلب، كما يتبين لنا مباشرة حين نتمثل الأرقام الهندية (أو العربية) حيث النقطة . (أو الدائرة 0) تمثل السلب، وحيث الواحد 1 يمثل الوحدة. وهكذا، فإن المحيط اللامتناهي أو النور السلبي لا ينطلق من مركز لأنه لا مركز له، إنما يتركز في المركز، الذي هو رقم أول الأسفار الظاهرة، التي هي التاج، أو السفر الأول، ذلك الذي بوسعنا أن نقول إنه الملكوت أو عاشر الأسفار المخفية، كما في الشكل التالي:
وهذا يعني أن "التاج هو الملكوت والملكوت هو التاج". أو كما قال ذات يوم خيميائي شهير وذائع الصيت (توماس فوغهان، المشهور بلقب أوجينوس فيلاليت)، واستنادًا على ما يبدو إلى برقليس: إن السماء هي الأرض لكن بطريقة أرضية، كما أن الأرض هي السماء لكن بطريقة سماوية. لكن بمقدار ما يكون الوجود السلبي موضوعًا غير قابل للتعريف، كما بينت سابقًا، فإن القباليين يعتبرون أن هذا الوجود يعيدنا حتمًا إلى الوحدة وبالتالي لا ينظرون إليه وكأنه مستقل عنها؛ لذلك غالبًا ما يطلقون هذه العبارات والألقاب بلا تمييز على كلاها. وتلك الألقاب هي "غيب الغيب"، و"أقدم الأقدمين"، "أقدس الأقدمين"،... إلخ للبحث صلة... ترجمة: أكرم أنطاكي (هذه الترجمة مهداة إلى روح سالومون لانكري) *** *** *** [1] المقصود هنا اللغة الانكليزية. [2] Prosper Rugers. [3] وفق التقويم العبري. [4] Mantuan, Cremonensian, and Lublinensian. [5] ch. ix [6] ch. ix [7] المرجع السابق.
|
|
|