english

نحو ميتافيزيقيا الرأفة

 

مايكل ناغلر

 

من الواضح أن قانون منع قتل الحيوانات يستند على خرافة لا معنى لها أو على شفقة أنثوية أكثر منه على منطق سليم.
سبينوزا

الرأفة هي تطرف هذا العصر.
قداسة الدالاي لاما

 

تعتبر ملاحم هوميروس أول وأعظم شعر في الحضارة الغربية. وقد نظر إليها غالبًا كشعر عن الحرب، لكن هناك جانب مهمل يتعلق بفهمها العميق للحرب، وهو على وجه التحديد ما أسماه وِلفرِد أون Wifred Owen "تعاسة الحرب" وما يفعله عنفها بالنساء والعائلة. في الواقع، إن ما وصفه هوميروس في القصيدتين هو طبيعة المجتمع الذي نحصل عليه إن كان نوع السلام الوحيد الذي نعرفه هو تلك الراحة المضطربة وسط خرائب صراع متقطع. وهذا سطر واحد من تلك القصة التي رواها الإله أﭙولو في نهاية كتاب الإلياذة، الكتاب 24 (الذي يسميه العلماء: النهاية)، السطر 54. [راجع النص الإغريقي: ص 257]

انظر إنه يعتدي على الأرض الصامتة بانفعاله.[1]

إنه أخيل، البطل شبه الإله الذي يجسد الحرب ويمثلها، وهو يرتكب إهانة خطيرة بسحله جثة عدوه هكتور المعلق بطرف عربته حول المخيم، ويحاول أﭙولو إقناعَ الآلهة بالتدخل لوقف الإساءة، مختتمًا بهذا شعره عن الصيد. في الحياة، كان هكتور محاربًا يدافع عن وطنه طروادة. فقتل صديق أخيل؛ ولكن نتيجة للموت، اعتقد الإغريقُ أنه لم يعد ينتمي إلى مدينته أو إلى أخيل الذي قتله بالمقابل، إنما بات ينتمي إلى الأرض. لأنه ومهما كان هكتور في حياته، فإنه بات ينتمي بعد موته إلى دورة الطبيعة. وبوسع أخيل أن ينتزع حياة هكتور - فهذا هو قانون المحارب - لكن ليس بوسعه انتزاعَ روحِه وعقله. وكل ما يفعله أخيل اليوم برفضه التخلي عن جثة هكتور للأرض يتجاوز ذلك القانون. إنه انتهاك - أو بتعبير آخر عنف (في اليونانية المبكرة كلمة hypris تحمل نفس المعنيين).

وبالضبط قبل القصيدة 54 تحدث أﭙولو عن العنف بطريقة متطورة كما سنرى في هذا السطر المؤثر:

لأن أخيل بفعله هذا لا بدّ إلا أن يخسر.

فهو، بتدنيسه جثة عدوة الصريع، وبانتهاكه نتيجة لذلك قانونَ الحرب السائد، سيدمّر نظامًا قيمًا جدًا يعتمد هو نفسه عليه لكي يعطيَ حياته وشرفه معنى. مرة أخرى التناقضات الكامنة للعنف. لأنه عندما تصلُ اللعبة إلى هذا الحد - من يستطيع وقفَها؟ - لا يفوز أحد.

ورغم هذا فإن "الأرض الصامتة" صورة ضاربة لها نفس الصدى في الشعر الـﭭيدي الهندي القديم، كما في منقول هوميروس (فالاثنان متصلان رغم الفرق بينهما) وما زال صداها موجودًا إلى يومنا هذا.

و"الأرض الصامتة" هي دروبادي Draupadi الذي أُهين في محكمة كوروس لأنه أرسل مهاباراتا العظيم إلى الحرب؛ إنها سيتا ("المتجعدة") التي اختطفها أرخيدمون في ملحمة رامايانا، والامرأة الطروادية في مسرحيات يوربيدس الكلاسيكية، حيث لا شيء ولا أحد بوسعه جعل صوتها مسموعًا في الشدائد، لأنه كل ما هو عرضة للخطر. لقد قتل أخيلُ العديد، واستوعب قانونُ المحارب ذلك. لكن ما يقتله أخيل الآن هو الرحمة. وما من ثقافة بوسعها أن تستوعب ذلك وتتعايش معه. لذلك، أود في هذا المقطع التحدث عن الرحمة لأستدعيّ من خلالها وأربط بها مفهومًا يستطيع أن يساعدنا على الفهم وعلى الشعور.

من بوسعه أن يسمع صراخَ الأرض[2]؟ لقد كان أﭙولو يحمي بطريقة سحرية جثة هكتور (ومن خلالها مكانة أخيل) من الأذى بينما كان البطل يسحل عبثًا جثة عدوه الصريع حول معسكره. وهو الآن يقنع باقي الآلهة الأخرى للتدخل لأن ما لا يقل عن كامل منظومة القيم، وبالتالي كامل منظومة الكون، أضحت معرضة للخطر. وما يثير الاهتمام هو أنه كانت هناك خطة لسرقة جثة هكتور، لكن الآلهة لم تتابعها، لأن هذا بلا جدوى، فما يحتاجه النظام هو تغيير قلب البطل. وعلى الرغم من أن هوميروس لم يتحدث صراحةً عن الحياة الداخلية كما نفعل، لكنه أخبرنا بوضوح، عندما رفضت الآلهة سرقة جثة هكتور، أن التغيير يجب أن يكون في داخل أخيل وبإرادته.

وتأتي الإلهة ثيتيس - والدة أخيل - فورًا لتقنعه بمنطق أمومي جدًا أن يعيد جثة هكتور إلى عائلته لإجراء مراسم الدفن اللائقة، ولكن هذا لم يعد ضروريًا لأن البطل كان قد تغير. وكان المشهد العظيم الذي تلا هو ذلك المشهد الذي جمع بين أخيل وبريام والد هكتور، حين استجمع الرجل العجوز شجاعته ليقبل تلك اليد القاتلة التي انتزعت حياة ابنه، هي الذروة الخانقة، لصلح تم انتزعه بصعوبة، ما جعل القصيدة تبدو وكأنها بدأت بالهبوط.

إن قدر أخيل يتحدث إلينا جميعًا. لأننا، نحن أيضًا، لم نعد نرى الرحمة - ولأننا مثله تمامًا نستطيع أن نفتح أعيننا من جديد. عبقرية هوميروس الغائب وإرثه، ربما الأفكار والصور الآتية ستساعدنا على ذلك.

في أوائل شهر أيار 1998 وقف عدة أعضاء من المحتجين على العقوبات الدولية على العراق إلى جانب سرير مصطفى، وهو واحد مما لا يقل عن عشرات الأطفال الذين ينازعون في جناح محتشد وقذر من المشفى الرئيسي في مدينة البصرة، المرفأ الجنوبي للعراق. أما والدة مصطفى، الطويلة والنحيفة والجميلة جدًا، فقد كانت تجلس متربعة على الفراش بجانبه وتبعد عنه الذباب. وقد شرح لنا الطبيب بأن الطفل بقي في المشفى طيلة الأيام العشرين الماضية وهو يعاني الآن من فقدان جسمه للماء، والإسهال، بالإضافة إلى فشل كلوي حاد وضمور عقلي شامل. وبسبب نقص المعدات والأدوية التي تمكن من تشخيص حالة مصطفى وعلاجه لم يكن بوسع الأطباء إلا أن يقفوا عاجزين ومحبطين بينما كان وضع الطفل يتدهور. وكانت العينان الواسعتان، الجادتان والمضيئتان، لوالدته إيما النوري التي في الخامسة والثلاثين من عمرها تتابعنا كلما كنا نتوقف قربها. وقد بدت مستغربة حين طلبنا منها أن تخبرنا القليل عن نفسها. ثم أخبرتنا أنها تعيش في منطقة قروية شمال البصرة وأن لديها طفلان في المنزل تفتقدهم الآن كثيرًا. وقد طلبنا من الطبيب إبلاغها بأننا آسفون جدًا وأننا سنخبر الناس في أميركا بقصتها، وسنبذل جهدنا لإنهاء العقوبات الدولية. أما هي فقد هزت برأسها وابتسمت. ثم نوهنا بأن الناس في الولايات المتحدة يحتفلون في هذا اليوم بعيد الأم وسألناها إن كان لديها رسالة للأمهات في دولتنا، فتملكتها الحيوية فجأة وأجابت بأن لديها رسالتان: "أولاً، أخبرهم على لسان امرأة عراقية أن هؤلاء هم أطفالنا وأننا نحبهم كثيرًا"، ثم أكملت وهي تمسد وجه مصطفى: "اطلب منهن رجاءً أن يحاولن مساعدتنا لحمايتهم والاعتناء بهم. أما فيما يتعلق بالنساء الأميركيات فأنا أريدهن أن يشعرن ما أشعر أنا به"[3].

كلمة الرحمة تعني حرفيًا (التعاطف مع المعاناة) وهي بالتأكيد تؤلم. لكننا حين نعاني مع الآخر نكبر، وحين نغلق قلوبنا تجاهه نموت من الداخل. والكلمة التي تعني الرحمة بالعبرية rehamim وهي جمع rehem (رحم). وأن تكون رحيمًا مع شخص هو أن تكون معه إلى حد قليل - أو ليس قليلاً جدًا - كما تكون كل أم مع طفلها.

لنعد هذه التبصرات إلى سياقنا التاريخي. فاللوحة التي نراها الآن قد رسمت على يد Joseph Wright of derby 1768، أي بعد 46 سنة من تلك التي علمنا إسحق نيوتن فيها أن المادة تتألف من كتلة من الجزيئات المتحركة والتي لا يمكن اختراقها. ما يعني بعبارة أخرى، مع بدايات المذهب المادي العصري وبداية انقطاعه الفاصل عن المفاهيم التقليدية القديمة حين كان الجنس البشري على علاقة عضوية مع الأرض الحية.

فالبالغ الذي نراه في الصورة هو عالم رحالة، أو إن أردتم، هو رحالة مبشر بالدين الجديد، يعرض مضخة خوائية لجمهور مستغرق. فهو يضخ الهواء خارج القفص الزجاجي، ولجعل تلك الحقيقة مرئية يضع عصفورًا داخل القفص. وبمشاهدة العصفور يلهث طالبًا النفس، بمعنى آخر، هم يستطيعون أن يتبينوا أنه لم يبقى المزيد من الهواء داخل القفص، فيتأثروا بما تستطيع التكنولوجيا فعله. ولكن ما هي التأثيرات الأخرى التي نتلقاها نحن؟ إن الاهتمام الواقعي والحقيقي في اللوحة هو الأطفال. وبالنسبة لهم هذا ليس من عجائب العلم. لأنهم لسذاجتهم لا يتبعون الشرح حول الضخ والهواء، لأنهم يعتقدون أن هناك رجلاً يقتل عصفورًا صغيرًا فحسب. فالقصة الحقيقية للوحة تكمن في التناقض بين المحاضر اللامع الذي يسيطر على الجمهور المفتون به، ككاهن أكبر للتكنولوجيا، وبين كرب الأطفال - ولأنهم في الواقع أطفال، فإن البالغون يتجاهلونهم وحسب. وإيذاءنا للطبيعة لا يعني نقصًا في الإنذارات. والمأساة الحقيقية هي أننا نتجاهل أولئك الذين ما زالوا يدركون ما نحن نفعله. ففي الإلياذة، سخر هكتور وزوجته أندروماك من طفلهما الصغير أستياناكس Astyanax، الذي أرعبته الخوذة الحربية لوالده، وبعد هذه السخرية بفترة قصيرة قتل أخيل هكتور الذي كان لابسًا هذه الخوذة الفخمة، وبعد ذلك بفترة قصيرة قام اليونانيون المنتصرون برمي أستياناكس Astyanax من فوق أسوار المدينة كي لا يكبر وينتقم لوالده. فمن هو الذي يجب أن يُسخر منه؟ ومن هو الذي كانت رؤيته الأكثر واقعية؟

فلوبير Flaubert الذي شاهد "تجربة على العصفور في قلب مضخة الهواء" عام 1856، دوَّن في يومياته

يا أيتها الفتاة الصغيرة التي تبكي. ساحرة بسذاجتها وعمق تفكيرها[4].

لأنها هذه السذاجة (إذا أردتم أن تسمو كذلك إدراك الطفل المباشر للحياة سذاجة) هي عمق التفكير بحد ذاته.

ونحن نقف اليوم على النهاية الأخرى للقوس الذي بدأ حين رسم رايت Wright بحماس شارحًا المضخة الخوائية وقوة تحكم الإنسان بالطبيعة. وقد تطورت العلوم والتكنولوجيا إلى حد لم يعد بوسع أكثر الجمهور العقلاني المندفع في القرن الثامن عشر تخيله. ونحن الآن نقف، أو لنقل يجب علينا أن نقف، مذهولين من النتائج. فما فعلناه بالبيئة وببنية حياة الإنسان داخل تلك البيئة الحية لم يكن ممكنًا تخيله في 1768. وهذا، على عكس ما نتصور، لم يفهمه سبينوزا، لأنه يجب أن تتملكنا الشفقة الأنثوية وأن نفهم أنها تتوافق ولا تتعارض مع المنطق السليم. ما يعني أنه لم يعد بوسعنا بعد الآن أن نتجنب الاستجابات المباشرة والبسيطة للأطفال.

وحالة الأطفال اليوم تجعل لندن في رواية ديكنز تبدو كالجنة. فخلال عشر سنوات، ما بين 95 -1985، مات مليوني طفل في الحرب وحوالي نصف مليون منهم مات قتلاً. وفي أمكنة ما، هناك حوالي أربع إلى خمس ملايين أجبروا على الإقامة في مخيمات للاجئين حول العالم، واثنا عشر مليونًا تركوا مشردين، ومئتا مليون كانوا أطفالاً عاملين. وفي الولايات المتحدة الأمريكية هناك ستة ملايين طفل تحت سن الستة سنوات (أي طفل من أربع أطفال في هذا العمر) يعيشون تحت خط الفقر. وازدادت جرائم الأحداث 50% في السنوات بين 1994-1989 (رغم أنه في الوقت الحالي نشهد انخفاض في جرائم العنف). وقد قامت المحكمة العليا في لوس أنجلوس بتبرئة Charles W. mcCoy Jr. منوههة أنه "حين يحاكم أحد الأحداث، فإن نصف الحالات تتم دون وجود الأهل"[5] والعقوبات الاقتصادية التي فرضتها الأمم المتحدة على العراق تسببت بمقتل مليون طفل عراقي.

لذلك فإننا حين نرى أخيل يجر جثة هكتور وراء عربته بالطريقة نفسها التي كان يجر بها الجنود الأمريكيون جثة جندي فيتنامي وراء عربتهم في الصورة الشائنة، وبنفس الطريقة التي جر فيها أعضاء الـ ك.ك.ك. الثلاث شابًا أسود حتى الموت عام 1998، نتبين أن البطل فقد كل إحساس بالشفقة في جنون المعركة. لقد فقد ما أسماه الإغريق eleos وaidos أي الشفقة والاحترام، وأصبح أشبه بالأسد منه إلى الإنسان، قادرًا على إلتهام أعدائه كالحيوان المتوحش، لكن حين تأتيه والدته برسالة من الآلهة يعود إلى أحاسيسه. وإن كنا ما زلنا نعتقد بأن هوميروس هو شاعر حرب، فإننا سنفاجأ حين نحاول تفسير تغيير في القلب كهذا - وشفاء في القلب كهذا - كذروة ملحمة مدت عقائد حرب الحضارة الغربية لأكثر من ألفي عام. لكن هذا لا يفتقد للواقعية، فقد شاهدنا العديد من الرجوعات إلى الوضع السوي في الصفحات السابقة. لا شيء غير واقعي في العلاقة المتوترة بين الشفقة وبين الوحشية لدى الشخص نفسه، وهذا هو الوضع الذي نجد فيه أنفسنا.

"أرض بكماء" أو بشرية صماء؟

لقد أصاب هوميروس حين صور صراخ البشر بسبب حاجتهم إلى التعاطف من خلال وصف مقاتل يعتدي على الأرض الصامتة غير واع للألم الذي لا تستطيع أن تسمعه إلا الآلهة. وهذا ما يجعلني أفكر بسطر ساحر كان إما مثلاً روسيًا أو بيت شعر ويقول إن "كل رصاصة تجد هدفًا لها في قلب أم".

واسترجاع وعي اللاعنف هو، إلى حد بعيد، جوهر رؤية هذا الترابط. اقترح أحد تلاميذي مؤخرًا، وبينما كنا مجتمعين لتعريف العنف، "إن آذيت أي شيء فأنت تؤذي الصورة بكاملها". كالأرض على سبيل المثال. ويجب اليوم أن نرى هذا بوضوح أكبر. حين تقذف القنابل المدمرة والصواريخ بوحشية على أعدائنا من دون أن ننوه إلى الكيماويات والجسيمات السامة - ما يجعل هوميروس كالنبي حين يصور إحساسه بهذا الربط في وقت كان فيه المقاتلون يتحاربون وجهًا لوجه بالسيوف والرماح. كانت رؤيته هي نبؤة الشاعر العميقة التي توضح أن العنف هو عنف "يخرب الصورة بالكامل"، والذي بوسع الآلهة (أو في لغتنا كشفنا الواعي والعالي) فقط الإحساس به. لقد كان هوميروس عبقريًا لكنه كان يملك أيضًا ميزة تفوق بها علينا، فقد آمن هوميروس بنظرة عالمية (وأحيانًا أتمنى لو كان ما زال بوسعنا أن نؤمن) تقول بأن الأرض كائن حي.

ولدى الإغريق أيضًا أسطورة تتحدث عن Agamemnon الذي كان عليه أن يضحي بابنته في سبيل الالتحاق بأم المعارك في طروادة. ومعنى هذه الإسطورة غير مغلوط لأن هناك تعارضًا أبديًا بين القتال في الحرب وبين العائلة (التي تؤمن الحماية التقليدية للرجال والنساء). فإما الواحدة وإما الأخرى. لأنه، ووراء كل التعقيدات، تستند الحرب والعائلة أساسًا إلى قيم مختلفة: كالدمار أو الحماية، والنصر أو التربية. أما في عصرنا هذا، حين تظهر الأمهات في نشرات الأخبار وهنّ بزي قتال رسمي تاركات أطفالهن في أميركا ليذهبن ويفجرن أطفال أمهات أخريات في العراق أو في مكان آخر، فما الذي سيوقظنا؟

من التناقض الظاهري إلى المثال

في صيف عام 1938 م، ترأس نيلز بور (صاحب نظرية الكّم) اجتماع دولي للفيزيائيين في كوبنهاكن. وكان بور معروفًا للعامة بفضل نظريته المشهورة عن التكامل، التي تصف المحدودية البنيوية لاستيعاب البشر للعالم الخارجي، ما يعني أنه لكي نصف أي شيء بشكل كامل فإننا بحاجة دومًا إلى ما لا يقل عن نموذجين تشاركيين محددين، كالجسيم والموجة. فالشيء الذي نريد أن نعرفه (وليكن فوتون، أو الكترون أو أيّ وجود كمي والذي يعني بالنتيحة أي شيء) ليس جسيمًا ولا موجةً، إنما سيظهر كهذه أو كتلك اعتمادًا على كيفية ملاحظتنا له. وبمناسبة هذا الاجتماع الدولي البارز طبق فكرته الشهيرة على أشياء أكبر نسبيًا من الإلكترون.

ونحن في وسعنا القول محقين إن مختلف الحضارات الإنسانية تكمل بعضها بعضًا. وفعلاً فإن كل حضارة تمثل توازنًا منتاغمًا للأعراف التقليدية كوسائل تستطيع بواسطتها الإمكانات المستترة للحياة البشرية الكشف عن نفسها بطريقة تبين فيها مظاهر جديدة من حيث غناها اللامحدود وتنوعها[6].

أمام هذا الاقتراح المذهل، وكما أشار ريتشارد رودس بإيجاز، (انسحب الوفد الألماني من الاجتماع محتجًا) لأنهم في النهاية كانوا نازيين أولاً وعلماء ثانيًا. وهم لم يكونوا فقط يستمعون لفيزياء يهودية (فوالدة بور كانت في الواقع يهودية)، لكنهم أيضًا كانوا يستمعون إلى نظرة عالمية معادية بكل معنى الكلمة للقيم النازية، ولتحد لكامل لمفهومهم حول الإنسان والقيمة الإنسانية. فـ"الاستبداد" وفق التعريف الشهير لحنه أرندت Hannah Arendt

لا يسعى إلى فرض قيم استبدادية على الجماعة بل لفرض نظام تكون فيه الجماعة غير ضرورية[7].

وفكرة بور عن أن كل مجتمع وعرق وحتى كل شخص لديه (أو لديها) دور في نظام الأشياء، وبأننا نحتاج إلى بعضنا بعضًا إن أراد أيٌّ منا استيفاء حقه، تعبر عن كره مرير لكل أشكال الفاشية. لهذا فإنها ستكون ربما نظرة عالمية تدعم مستقبلاً قائمًا على الإحساس.

ولأن النازية تعبر عن منطق العنف المدفوع من حيث النتيجة إلى حده الأقصى، فإنه بوسعنا أن نرى فيها عدة أمور تتفق إلى حد كبير مع قرار استخدام الإكراه الوحشي لتحصيل ما تريد. وعلى الرغم من أن الارتباط بينهما قد لا يكون واضحًا للوهلة الأولى، فإن أول هذه الأمور - وربما أول شيء يجب أن نأخذه بعين الاعتبار فيما يتعلق بأية رؤية عالمية - هو تصورها للإنسان. وقد كان هتلر عديم الإحساس بهذه الناحية. حيث يقال إنه في أحد المرات شرح لصحفي أمريكي:

هل تعرف بأن لكل إنسان سعره؟ وستفاجئ إن عرفت كم بخس هو هذا السعر.

فالعنف مرتبط بأحط صورة للكائن الإنسان بينما اللاعنف يعبر عن حالته الأسمى. وهذا أحد أسباب ما يجعل العنف يفرقنا عنه بينما يستجيب اللاعنف مباشرةً للانسجام الغامض الموجود بيننا، والذي هو الفخار الخفي لكل منا. وهذا أحد الأسباب التي تجعل موقف اللاعنف يقودنا إلى أعمال تمنح إحساسًا بالمعنى بينما تمنح حياة العنف، في أحسن حالاتها، مجرد إشباع سطحي وزائل. ومن ألمانيا اليوم، حيث قام العديد من الشباب بمبادرة لتجاوز ميراث النازية، تلقيت مؤخرًا نشرة جميلة تصف اللاعنف من جهة وتعطي تخيل شخصي من جهة أخرى[8]، وهذا ربط بديهي وصحيح.

لقد أخذتنا كلمات بور إلى بصيرة جوهرية. كل متخصص في الأحياء يعرف أن جوهر الحياة متنوع. ولكن النازيين اعتقدوا أن الحياة مجرد تسلسل نهائي، كأن يكون هناك عرق واحد ونظام واحد، وبالنتيجة شخص واحد يكون هو فقط الشرعي والنظيف أو أيًّا كان؛ أما الآخرون فيكونون "إما معنا أو ضدنا"، وهذا يتناسب مع طريقة الدرب الوحيد الذي يتم فرضه بالإكراه إذا لزم الأمر. بإمكاننا أن نسمي هذه الرؤية العالمية بمقولة "الاختلاف من خلال التشابه".

ولسوء الحظ كان ظهورها عالميًا. لذلك فإن الترياق المباشر للفاشية على هذا المستوى هو الفكرة المختلفة تمامًا، والتي أسماها هيغل Hegel "الوحدة في التنوع". وكإطار مرجعي، فإن الوحدة في التنوع طريقة لمعرفة القيمة المميزة لكل حياة من خلال فهم ارتباطها بالحياة بالكامل. لاحظ مصطلح بور "بوسع الإمكانات الخفية للحياة الإنسانية أن تكتشف نفسها"[9]. وهذا هو بالتحديد تعريف اللاعنف الذي قدمه شاب اسكتلندي يدعى جون غالتونغ بعد عدة سنوات كـ"تحقق للإنسان". وبالعكس، سيعرف غالتونغ العنف كتسوية للحاجات البشرية من الممكن تجنبها، أي كشيء يمنع هذا التحقق[10]. وبهذه الروح تحدث الدالاي لاما على هامش مؤتمر حقوق الإنسان الذي عقدته المنظمات غير الحكومية والأمم المتحدة عام 1993 حيث قال:

إذا كنا محرومين من استخدام إمكانياتنا الخلاقة فنحن مجردون من استخدام واحدة من السمات الرئيسية للإنسان.

وأضاف:

غالبًا ما يكون الأفراد الأكثر موهبة وإتقانًا وإبداعًا في مجتمعنا ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان. وبالتالي فإن تطور المجتمع من الناحية السياسية والاجتماعية والحضارية يصبح معاقًا بسبب انتهاك هذه الحقوق[11].

لذلك هناك ارتباط بين الحنو (أو الرحمة) التي هي القوة الجامعة للأسرة والمجتمع والأرض معًا، وبين المفهوم أو الرؤية التي تقول بأن كل حياة ثمينة في تنوعها ووحدتها. لقد كان بور يحاول، على ما يبدو، تعقب امتداد التنوع البيولوجي، الذي نفهمه نسبيًا بشكل جيد، إلى التنوع الحضاري والفردي الذي لا نفهمه. لأن الوحدة في التنوع، إذا صح التعبير، هي لاهوت الرحمة.

هناك الآن أكثر من ستة مليارات إنسان يشكلون الأسرة البشرية، وهم في تزايد. ولكن هذا لا يهم. فمن منظور الوحدة في التنوع كل شخص منهم لا يقدر بثمن. وما إعادة عقوبة الإعدام في الولايات المتحدة والقتل الرحيم والمادية والانتهاكات البشعة لحقوق الإنسان وتدهور الأسرة والأنظمة الداعمة لتنشئة الطفل، إلاّ طرائق تعرّض هذا الداخل للخطر. ونحن محكومون بتكرار هذا الخطأ طالما أنه لا يوجد أي خيار آخر لضبط الفوضى سوى العنف، أي عن طريق العنف. لكن حياة الرجل أو المرأة من منظور اللاعنف مقدسة، أي لا تقدر بثمن، ولا يمكن اعتبار المجموع الكلي لكل الحياة أكثر أهميةً من حياة فرد معين، لأنه من هذا المنظور، اللانهاية تساوي اللانهاية.

وفق المنطق شمولي فإن "موت شخص هي مأساة، بينما موت مليون هي مجرد قضية إحصائية"[12]، أو كما قال رونالد ريغان: "إن شاهدت شجرة واحدة من شجر الخشب الأحمر، فكأنك شاهدتها كلها". لكن منطق اللاعنف لا يفعل بهذه الطريقة، إنما عوضًا عن ذلك هو يقول إن "كل بمفرده شيء حسن، والكل شيء حسن جدًا"، فإلهنا خلق كل الأشياء حسنة جدًا[13]. ما يعني بالنسبة للاعنف أن موت مليون شخص هو مليون مأساة، حتى وإن لم تكن مخيلتنا قادرة على استيعاب ضخامتها. وأيضًا فإن مليون وفاة ليست أسوأ من وفاة شخص واحد، لأنه لا شيء أسوأ من وفاة إنسان. وهذا ما تعنيه قدسية الحياة.

ولدى غاندي، كهندوسي تقليدي، أساس ميتافيزيقي متين يدعم هذا المبدأ، وقد أحب أن يقتبس لتوضيح الأمر مثلَ حكمة تقليدي yatha pinde، tatha brahmande الذي يعني: "كما مع الشظية. كذلك مع الكل". أي بمعنى آخر، العالم الكبير متضمن في العالم الصغير. لأن كل ما يعيش "هناك" يعيش "هنا" كما تقول بالقوة الفلسفة.

وهذه ليست الطريقة التي نرى فيها الأشياء عادة. ولكن من قال إننا عندما نتعامل من خلال منطق الشراء والبيع الذي يشكل وعينا الطبيعي فإننا نرى الأشياء كما هي فعلاً؟ فعلماء فيزياء الكم والصوفيون ومنقولات العالم الدينية وكل من يعتقد بقدسية الشخص - الذين يرصدون ما يشتبهون أنه في قلب كلّ منّا أكثر اللحظات تعبيرًا - يعودون دائمًا إلى هذه الرؤية. وهذه الرؤية دفعت جورج أورويل، على سبيل المثال، لأن يتفكر بينما كان يشاهد حركات هندوسي يافع يشرف على تنفيذ الحكم على أشخاص محكومين بالإعدام بأن "حياة واحدة أقل، (تعني) عالم واحد أقل"[14]. هذا ما يدفع المواطنين الصالحين إلى الاعتصام عندما تقرر الولاية بأن لها الحق بوضع حدٍّ للحياة، وما يجعلهم يقولون إن عقوبة الإعدام هي "القضية الأخلاقية الأهم في وقتنا الراهن". لأنه، وكما قال مراسل مجلة بؤرة عقوبة الإعدام، بما أن الحياة ثمينة إلى حدٍّ يجعلنا لا نتجرأ على انتزاعها تحت أي ظرف، ومهما كان هذا يبدو غير عملي. فإن التحدي هو العكس من ذلك تمامًا، أن نجعل القيمة العليا لكل حياة أساس حياتنا العملية.

أما فيما يتعلق بأجسامنا، ولما كان جزءًا صغيرًا، يكاد لا يذكر، من حمضنا النووي DNA هو المستخدم بينما يبقى ما تبقى كامنًا، فإن هذا يعني قياسًا أنه يوجد في وعينا ما يكفي من المعلومات لتجديد العالم. وكل ما نحتاجه هو أن يفتت الشخص الواعي لقدراته المنظومةَ الإستعمارية ويمحو الخرافة القائلة إنه "من الطبيعي أن يخضع الأضعف أمام الأقوى[15]".

ذات يوم من العام 1943 تم تهريب سبعة آلاف ومئتا شخص، أي عمليًا كل اليهود الدانماركيين، إلى خارج الدانمارك على الرغم من وجود الاحتلال. لقد تم تهريبهم بواسطة أسطول مؤلف من عناصر مختلفة من زوارق صيد وأي شيء يمكن أن يطفو، فرميت وقذفت وسط البحر الهائج، لكنها وصلت إلى السويد عند الصباح على الرغم من ثقلها ومع حمولتها التي أصابها دوار البحر. ليجدوا حين اعتقد الجميع أنهم أصبحوا آمنين أن ملك السويد كان خائفًا من منحهم اللجوء. فقد كان خائفًا من الوجود النازي. وربما كان خائفًا من أن يعرض هذا اللجوء حياد السويد للخطر.

لكن، عندما قام عالم فيزياء دنماركي كان يختبئ في أوبسالا بإرسال كلمة إلى الملك يقول له فيها إنه إذا لم يقبل اللاجئين فإنه سيقوم بتسليم نفسه للنازيين، رضخ الملك على الفور وقبل اللاجئين. وسواءً كان تحركه (أي الملك) سببه سياسة نفعية أو رحمة تيقظت فلقد استجاب بشكل ممتاز لساتياغراها الفرد التي تحدث عنها بور.

وحدة القلب: في مجتمع التنوع

لأننا إن تخلينا عن قدسية الحياة، التي نؤكد عليها في العالم الغربي، من أجل التلاؤم مع حالات الانتحار المساعدة والإجهاض، ومن أجل إزالة هذا الوهم المريح والقائل إن إعدام (المجرمين) يجعل بقية المجتمع آمنًا، نكون قد تخلينا عن مبدأ حضارتنا.

بالتأكيد تبدو فكرة الوحدة في التنوع متناقضة بعض الشيء. حيث كتب الرابي (الحاخام) أبراهام اسحق كوك:

بمقدار ما نتعمق في دراسة الخواص الفردية للروح البشرية... يصبح المرء أكثر حيرة بسبب الخلافات العظيمة بين الشخصيات... لكن، وبالضبط من خلال هذا الاختلاف، نراها تتحد جميعها لتحقيق هدف واحد هو المساهمة في كمال العالم، كل شخص بحسب موهبته[16].

(تأكيدي) واللاعنف يعطينا طريقة بسيطة لحل هذه المفارقة. فالوحدة التي نتحدث عنها هي وحدة القلب وهي تحت السطح، بينما التنوع الذي نتحدث عنه موجود على السطح، كتنوع للخصائص الخارجية. لم يطلب غاندي أبدًا من المسلمين التخلي عن دينهم، أو من البراهمة أن يوقفوا التدريس أو أداء الطقوس وأن يعتمدوا على khadi لكسب قوتهم، إنما أراد من الجميع أن يكفوا عن الشعور بالفوقية أو الدونية تجاه بعضهم البعض. فالبراهميون سيبقوا براهمانيين والمسيحيون سيصبحون مسيحيين أفضل، وكل شخص منهم سيوافق على رخاء الآخر. و كما شهدنا فقد اخترع مصطلح وحدة القلب ليعبر عن ذلك.

فوحدة القلب تساعد على فهم أننا واحدٌ من حيث وعينا الكامن الذي لا يمكن تقسيمه. في الممارسة العملية أنا أصبح على اتصال مع الواحد عندما أريدكم أن تحققوا الكمال وهذا يعني بالطريقة التي بوسعكم تحقيق ذلك. وهي ليست بالضرورة الطريقة التي أحققها أنا. لأن المبدأ القائل إنه بوسعنا ومن واجبنا جميعًا تحقيق الكمال هو مبدأ إيمان أساسي في عالم الساتياغراها؛ ولدينا طرائق مختلفة ومتساوية لتحقيق ذلك. وبهذه الطريقة فإن الوحدة في الطموح (بمعنى في القلب) تدعم التنوع الظاهر لصفاتنا وفرديتنا. وفعلاً ليس في وسعك الحصول على إحداها من دون الأخرى. فالوحدة هي البصمة، لأنها تحقيق حياتنا الداخلية، تمامًا كما التنوع هو الصفات الطبيعية لحياتنا الخارجية.

على أرض الواقع، أراد غاندي من الهندوس، باسم المحبة، منع أشقائهم المسلمين من ذبح البقرة. كما أراد أن يأخذ البراهميون بعض الوقت للقيام (بصنع الخبز) طوعًا. لكن قبول جميع الآخرين لا يعني قبول كل شيء. على نحو مماثل، وبينما يزداد العالم صغرًا، تزداد فرص أن نتعلم من بعضنا بعضًا ولكن أهمية أن نقلد بعضنا البعض لا تزداد. لأنه تبين أن محاولة فرض (الوحدة) شكلاً (هي في الحقيقة تماثل) يتطلب بعض الهيمنة و/أو التبعية، والاعتقاد بهذا النوع من الوحدة هو الذي جعل الفاشيون ينسحبون عندما وصف بور الأمر على حقيقته.

في محاولة لتمييع نداء الدالاي لاما (إلى المجتمع الدولي) من أجل المساعدة في تأمين الحقوق الأساسية لشعبه الأسير، قام النظام الصيني ساخرًا بلعب ورقة غالبًا ما لعبها بشكل جيد وبصدق (بمعنى) أن هذا النوع من "التدخل" هو لفرض القيم الغربية على الشعوب غير الغربية. وقد أظهر قداسته الخلل في تلك الحجج من خلال استخدامه الجيد للمبادئ البوذية.

فجميع البشر، وبغض النظر عن خلفيتهم التاريخية أو الثقافية يعانون عندما يتعرضون للترهيب والسجن أو التعذيب... ويجب ألا يكون هناك اختلاف في وجهات النظر بهذا الشأن. وعلى التنوع الغني للثقافات والأديان أن يساعد في تعزيز حقوق الإنسان الأساسية لدى كل المجتمعات[17].

جميعنا بحاجة لأن نخدم، جميعنا نحتاج إلى ما التي أشار إليه أوغوسطينوس لأن نكون متحدين مع بعضنا البعض - وهما مجالان لا يعيرهما مجتمعنا الحديث أي اهتمام. جميعنا، وفي كل أنحاء العالم، بحاجة للاحترام، بمعنى الحصول، في نفس الوقت، على كرامتنا الإنسانية وعلى ما نحترمه على حد تعبير دوستويفسكي. واللاعنف يؤمن بشكل كامل كلا هذين البعدين. في ثورة الفلبين الشهيرة 1983-1986 (قوة الشعب) صاغ الناشطون مصطلحًا آخر للاعنف، الذي هو ربما الأفضل على الاطلاق: "الكرامة أولاً".

لا يمكن أن يكون هناك إلا Michael nagler واحد (لحسن الحظ، كما قد يعتقد البعض). وبينما هناك أشياء محددة ستجعلني سعيدًا كفرد (كفرصة تعليم اللاعنف والسعي لزيادة الغابات غير ملوثة). فإن رغبتي في السعادة هي نفسها (ولها نفس شرعية) رغبة كل شخص لا بل كل مخلوق. والعنف ينفي كل من هذا التميز الظاهر وتلك الهوية التضمنة. بينما اللاعنف يؤكد عليها. لذلك فإن اللاعنف الفعال (هو دعوة لكل منا) لأن يستخدمهما معًا في سعيه من أجل مجتمع محب.

وبما أن العالم اليوم متشنج إلى حد بعيد بسبب الأحقاد العرقية الحقيقية والكاذبة، وعداوات أخرى. فإنه لم يعد بوسع الناس أن يتذكروا أنهم يشتركون من حيث الوحدة الضمنية رغم اختلافاتهم السطحية، لذلك نراهم يشاهدون فقط الاختلافات التي قد تأخذ لاحقًا حجمًا رهيبًا. فيقعون ضحايا ما أسماه Eibl-Eibesfeldet العالم في دراسة سلوك الحيوان "النوعية الكاذبة"، وهي الخدعة التي تقول إن الآخر ينتمي إلى نوعية أخرى، أي أنهم ليسوا بشرًا[18]. فهم اليوم (مجرمون) وطبعًا (إرهابيون) كما كانوا البارحة (شيوعيون). ومن يعلم ما الذي سيكونون لاحقًا.

وهذا ما يساعدنا اللاعنف على تذكره. لأنه وكما قال لي صديق ناشط مؤخرًا: اللاعنف "يؤنسن عدوك ويجعل عدوك يؤنسنك". لنأخذ أي صراع سواء في الشرق الأوسط أو في البلقان أو في افريقيا أو أمريكا، فإننا لن نرى أبدًا ذلك الكره المفرط الذي يتدفق حول العالم ما لم تكن رؤيتنا العالمية العامة متجردة من إنسانيتها. طبعًا، ستبقى هناك مشاكل كالخلافات حول حقوق الماء والاستحقاقات الاجتماعية، ولكنها ستبقى مجرد مشاكل. وأنت لا تكره المشاكل إنما تسعى لحلها.

وهكذا فإن الفكرة التي تصور العالم كالآلة وبأنه مصنوع من جسيمات منفصلة ونيوتينية صلبة (صلبة إلى حد أنه لا يمكن تفتيتها)[19] لديها نتائج سيئة كما تنبأ Joseph Wright. لقد كانت فكرة جديدة عندما حين صورت (التجربة) ولاتزال جديدة نسبيًا بمعنى أنها بدلت أسطورة عاشتها الإنسانية قرون غير معدودة. لكنه بهذا الإدراك اعتقد العديد (ويبدو أنني اعتقدت بهذا أيضًا) أن ما نحتاج أن نفعله هو أن نعيد تلك الأسطورة إلى الحياة، وهذا لن يكون سهلاً. ولأني أمضيت الكثير من الوقت خلال مهنتي المبكرة في دراسة الأسطورة، فأنا أعلم أن Wright مع كل ما حصل من تغييرات، كان توضيحيًا؛ فالأسطورة نفسها قد تضعضعت كطريقة تشكل فهمنا للعالم. لأنه وكما قال غالبًا صديقي فيليس هارمان Whillis Harman:

لقد أصبح العلم وسيبقى نظام المعرفة الرئيسي الذي تقوم عليه حضارتنا.

لكن هذه ليست مشكلةً بالنسبة للاعنف. فغاندي نفسه قدم اللاعنف بانتظام وعلى نحو ملائم كعلم من حيث معانيه النظرية والعملية، بمعنى أنه يمكن أن يمارس بانتظام وأن يفسر عن طريق قوانين منطق البشري. وعلم اللاعنف، حين يتطور وينتشر، إنما سيدعم مجددًا الأسطورة كنموذج عالمي متفق عليه يقول إنه توجد حياة ويوجد وعي بوسعه أن يوحد بين الخلق ككل. والنتيجة كما وثقتها دراسة كارولين مرشانت بشكل جيد، أن ما وصل إليه أسلافنا بحماستهم للتصنيع، جعلهم لا يصدقون أن الأرض حية، ووصموا هذا المفهوم بالبدائي والروحاني والخرافي. ونحن اليوم في أشد الحاجة لإعادة إيقاظ إدراكنا الفطري بأن الحياة مقدسة. وهذا سيساعد الناس العلميين من أمثالنا أن يعوا بأنه خلف كل التنوع الذي نراه توجد وحدة لا نراها.

إن هذه الرسالة وقوتها عالميتان. أثناء فترة الاضطرابات الرهيبة التي حدثت منذ عدّة سنوات، في ولاية غاندي جاغارات، أغارت عصابة إجرامية هندوسية على قرية ريفية. وكان كل رجال القرية تقريبًا خارجًا في الحقول. على أية حال تصرفت النساء بسرعة وأخذن جيرانهم المسلمين لتخبئتهم من العصابة. ولأنهم يعيشون غالبًا في أكواخ ذات غرفة واحدة، فإنهن خبأنهم في زاوية puja، تحت المذبح الذي في منازلهن. واقتحمت العصابة الإجرامية منزلاً بعد الآخر صارخةً: "أنتم تخفون المسلمين هنا"، فأجابت النسوة بهدوء: "نعم". فصرخت العصبة: "سندخل ونحضرهم"، فأجابت النسوة واحدة تلو الأخرى: "اقتلوني أولاً، عندها فقط بوسعكم الدخول". وكان كل مسلم في القرية في مأمن في ذلك اليوم.

من هم هؤلاء النسوة؟ نحن بحاجة لشجاعتهن وفطرتهن ورؤيتهن. نحن بحاجة لإيمانهن. فمن هن؟ إنهن كل واحد فينا، وقد وضع في وسط حدة الحياة الحادة حيث تتقاطع الثقافة ولكن اللاتي ما زلن يملكن بقايا رؤية إنسانية نحن بأمس الحاجة إليها. لأننا نشعر جميعنا اليوم بمثل هذه الحاجة الملحة، وهناك كل الإمكانية لأن نعيد بناء ثقافتنا كي تدعمنا حين نواجه فرصنا لنحرك ذلك النوع من الإيمان والشجاعة. إذا نجحنا (ونحن لا نطلب أقل من ذلك) فإنه يجب أن نكون فخورين بمساهمتنا في الخروج من مثل هذا الزمان المجمّد للروح البشرية.

ترجمة: غياث جازي
تدقيق: أكرم أنطاكي

*** *** ***


 

horizontal rule

[1] في السطر 22 يقول الشاعر نفسه: إن "أخيل كان يذل هكتور العظيم بغضبه" مقاربًا بهذا ما بين الجسد والتراب، وما يرافقهما من انعكاسات رمزية، ودامجًا صوته مع أصوات الآلهة.

[2] هو العنوان الفرعي للنسخة الألمانية لسري إيكناته إيسوران أي العالم الرؤوف. Berkeley, California: Nilgiri Press, 1989.

[3] E-mail of May 24,1998 entitled, “To Feel What Ima Feels,” by Kathy Kelly of the Voices in the Wilderness, and reproduced with her permission.

[4] From the Metropolitan Museum exhibit catalogue, 6 September - 2 December, 1990, p. 58.

[5] These statistics respectively from “Every Fifth Child,” in Bread for the World newsletter, 4:2 (March, 1992) and the Op-ed page of the San Francisco Chronicle for March 28, 1994.

[6] Rhodes, Richard. The Making of the Atomic Bomb. New York: Simon & Schuster: Touchstone, 1988, p. 243.

[7] Arendt, Hannah. The Origins of Totalitarianism. London: Allen and Unwin, 1967, p. 457.

[8] ما يترجم بـ Gewaltfreiheit أي "التحرر من العنف". فالألمانية هي واحدة من اللغات القليلة حيث لكلمة "لاعنف" ترجمة إيجابية، أو Selbstdarstellung. هذا ما ورد في نشرة 1994 لمشروع تربوي محلي للعمل من أجل السلام Fränkisches Bildungswerk für Friedensarbeit e.V..

[9] وفق تعبير بور.

[10] Galtung, Johan. “Violence, Peace, and Peace Research,” Journal of Peace Research, No. 3, (1959) pp. 167-191. Cp. Aldous Huxley, Means and Ends (London, 1937) p. 1: “the free development of each will lead to the free development of all.”

[11] Speech at Non-Governmental Organizations, United Nations World Conference on Human Rights, Vienna Austria, 15 June, 1993 (available at www.tibet.com/DL/vienna.html).

[12] - تنسب هذه العبارة أحيانًا لغوبلز وأحيانًا لستالين، انظر:  Soloman, Norman. “Wizards of Media Oz: Behind the Curtain of Mainstream News,” E-mail to (www.labridge.com/change-links/GOODGRIEF.html).

[13] St. Augustine, Confessions vii.12, (my translation). The embedded quote is of course Genesis I.31.

[14] Orwell, George. A Hanging, in Ian Angus and Sonya Orwell, editors, The Collected Essays, Journalism and Letters of George Orwell, London: Secker and Warburg, 1968, p. 46.

[15] Respectively, Mishnah Sanhedrin IV, 5 and Koran 5.35.

[16] Kook, Abraham Isaac. The Lights of Penitance, the Moral Principles, Lights of Holiness, Essays, Letters, Poems. New York: Paulist Press, 1978, p. 6.

[17] This comment of His Holiness’s is also from 1993, and may be found at www.tibet.com/DL/vienna.html.

[18]  Midgley, Mary. Evolution as a Religion. London: Methuen, 1985, p. 157; cf. 153: حيث جاء: "إن عبارات مثل حقوق وواجبات، تبدو هنا غير دقيقة. لأن لها معنى مقارب من الشرعية. ولها في نفس الوقت معاني أخرى تشمل كل الحيز الأخلاقي، وهي أعمق بكثير... من الصعب الحديث عن حقوق الحيوان، كما نتحدث عن حقوق الإنسان. لكن، إنكار أية حقوق هو في الوقت نفسه غير مقبول. يجب استبدال الكلمة بالكامل.

[19] نص لنيوتن ورايت.

 

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود