french

 

مدخل إلى النظرية العلائقية

 

سامي محمود علي

 

تعرِّف النظرية العلائقية في النفسجسميات[1] بثلاثة محاور أساسية للأداء، ترتسم اعتباراً منها ثلاثةُ أشكال باثولوجية رئيسية، تشتمل على النفسي والجسمي في آنٍ معاً. وتتعيَّن محاور الأداء، كما والأشكال الباثولوجية المقابلة لها، بمفهومين أساسيين: وظيفة الخيال، من ناحية، وكبت وظيفة الخيال، من ناحية أخرى. ويسمح بسطُ هذين المفهومين، عبر مقاربة بَدَرية، باستنباط الباثولوجيا البشرية برمَّتها، في انتمائها المزدوج إلى النفسي وإلى الجسمي. غير أن هذا الاستنباط ليس ممكناً إلا لأن الخبرة العيادية قد يسَّرت أصلاً عدداً من الاكتشافات الجوهرية.

*

فما هو الخيال؟

الخيال مفهوم نفساني وبيولوجي في الآن نفسه، مقيَّض له أن يؤسِّس لما يُتعارَف عليه كصحة وكمرض، بمقدار ما يتعلق كلاهما بسيرورة نفسجسمية ينتظمها تقلُّب الأعراض – وهو تقلُّب يجيز تتبُّعَ تطور باثولوجيا تتملص من الحواجز الموضوعة بين النفسي والجسمي، الأمر الذي يكرِّس في الحال استمرارية الأداء حيثما نصطدم بانقطاع الأداءات الجزئية.

عِياناً، ليس الخيال شيئاً غير الحلم ومكافئات الحلم في حياة الصحو. لكن الحلم أصلاً سيرورةٌ بيولوجية محمولة على إيقاع ومرقَّنة بتناوب النوم الخُلفي[2] والنوم البطيء، وفي الوقت نفسه بحضور أداء يتصدَّر فيه الخيال قبل انبثاق الواقعي. فإذا سلَّمنا بأن الحلم تحقيق للرغبة فإن الرغبة ليست هي ما يطلق للحلم العنان. فالحلم، بمضمونه الخاص، ليس إلا غارب موجة تتجدد وتأتي من مكان أبعد.

لا يصح اختزال الخيال إلى التمثيل بالصور لأنه الذاتية بعينها. لذا فإن الخيال مرادف للإسقاط، الذي ينبغي أن نرى فيه ضرباً من الفكر يختص به الحلم، يحوِّل الذات إلى موضوعات كما وإلى مكان الموضوعات وزمنها: إنه الذاتي بإطلاق وقد صار الموضوعي بإطلاق. من هنا فإن الإسقاط لا يُختزَل إلى آلية جزئية تتصل بالاستدماج،[3] بما أنه ينبغي، في هذه الحالة، أن تنطرح مجدداً مسألةُ منزلة الغرض الخيالي الذي نقتنيه ونتخلَّى عنه – وهذه مسألة لا يجوز تجاهلها.

غير أن الحلم ليس الحلم الليلي فقط. حسبنا هذه المعاينة لكي نتصور نَسَباً للخيال يجيز الإحاطة بوحدة الأداء النفسجسمي الذي ليس الكلِّية والذي يتفعَّل في شروط أخرى غير النوم، عبر تنويعات النشاط الأحلامي التي هي التهويم، وأحلام اليقظة، والهذيان، والهلوسة، والوهم، والاعتقاد، واللعب، والتحويل، والسلوك السحري... – وكلها ظاهرات يحدث فيها الحلم من أجل تحقيق توازن، مختلف في كل مرة، بين الواعية، وما قبل الوعي، واللاوعي. ففي النفسجسميات، أكثر من أي مكان آخر، لا مندوحة من التأكيد أن الخيال واحد وأنه وظيفة تتكوَّن.

تتوسط في هذا التكوُّن العلاقةُ الباكرة بين الأم والطفل؛ فعبر هذه العلاقة، بالفعل، يتوطد إيقاع بيولوجي أساسي بحسب ما إذا تم تجاوز التكرار أو كان هذا يسير نحو النفاد. قَدَران متضادان، إلا أنهما لا يرتبطان بالتصور الفرويدي لدوافع الحياة ودوافع الموت، بما أنهما لا يتعلقان بتلقائية تكرارية مستقلة عن الطوارئ العلائقية بقدر ما يتعلقان بتلقائيات ضمن علاقة معينة.

هكذا يُعرَّف بالخيال بوصفه وظيفة تنبسط في علاقة تتفرد بكون وجودها سابقاً على طرفيها المترابطين.

*

أتصدى الآن للمفهوم الثاني، ألا وهو كبت وظيفة الخيال.

ينبغي لي، بدايةً، أن أشدد أني لا أتكلم عن المفهوم الفرويدي للكبت، الذي، من جانبه، يتناول حصراً محتوى من رتبة الوجدان أو التمثيل. فنحن نضع هنا، بالمقابل، كبت الخيال باعتباره وظيفة، الأمر الذي يسمح، من ناحية، بتوسيع حقل الباثولوجيا لكي يضم العضوي، وبتعيين ثلاثة محاور للأداء بحسب مآل الكبت، من ناحية أخرى. وهاكم كيفية حدوث الأمر:

الإمكانية الأولى هي أن نقول، مع فرويد، بأن كل باثولوجيا نفسية تتم على ثلاث مراحل: الكبت، فشل الكبت، وعودة المكبوت على هيئة أعراض عصابية أو ذهانية. وهذا يصح على أبسط الزلات بمقدار ما يصح على أعقد الذهانات. فالأمر، في كل الحالات، عبارة عن تشكُّل أعراضي، عابر أو يدوم طويلاً، ينبثق فيه من جديد خيال سبق له أن ألغِيَ.

يوطد فشل الكبت، في هذه الحالة، استمراريةً مع الخيال. فإذا حصل عندئذٍ تجسيم[4] فإنه يقع في الجسم الخيالي، بحسب نموذج التحويل الهستيري،[5] ويبقى على تواصل إيجابي مع الخيال. إنها باثولوجيا نفسية يكون فيها الجسم نفسه هو الذي يؤسِّس للحلم ويفترض أن يكون الدعم قد تمَّ سابقاً. كذلك فإن الأعراض تبقى وظيفية، عكوسة، تتحلَّى بمعنى رمزي أوَّلي، معنى يعيِّن العَرَض، ويكون في أصله، متطابقاً مع الأعراض، عصابية كانت أم ذهانية. وعندئذٍ يُختزَل الجسم إلى صور الجسم ويتعلق التجسيم بالمجاز.

لكن هذا يجيز لنا استشفاف إمكانية أخرى.

يمكننا بالفعل أن نتساءل عما إذا كان الكبت يجب أن يفشل دوماً وعما يمكن أن تؤول إليه الباثولوجيا فيما إذا ظل الكبت على حاله. وهذه مسألة لامَسَها فرويد بالفعل، لكنها تظل بلا جواب ما برحنا نقف على صعيد الباثولوجيا النفسية.

على أني طرحت في كتابي المبتذل (1980) فرضية باثولوجيا أخرى، عضوية حصراً، تماثِل الكبت الناجح لوظيفة الخيال ويعيِّنها الموقفُ الأساسي حيال الحلم.

وهذا الموقف ناتج عن الكبت الطبعي لنشاط الحلم وينحو إلى إدامة هذا الكبت عينه. لا ينجم عن ذلك النسيانُ الرتيب للأحلام وحسب، بل وفقدان الاهتمام حيالها. وفي المآل، سيان إذا تذكَّر المرء أحلامه أو لم يتذكرها، من فرط قلة اهتمامه بها. عندئذٍ تأتي قواعدُ التكيف لتملأ فراغاً يتسع، ولتحلَّ محلَّ الذاتية التي تصير ذاتية بلا ذات. ومن هنا باثولوجيا تكيُّفية يعيِّن فيها المبتذلُ، في آن معاً، العلاقة مع الذات ومع الآخر.

هو أداء يبدو متناقضاً إلى أقصى حد، لأن الأحلام (باستثناء الحالة الخاصة بالمعالجة بالمتقبِّضات العصبية) توجَد موضوعياً وليس ذاتياً، كما تؤكد على ذلك دراسات تخطيط الدماغ الكهربائي. تلكم طريقة يُستلَب بها المرء من ذاته وهو قانعٌ بذلك، منقطعٌ عن ذاته بدون أن يعاني من جراء ذلك. وهذا لا يمت بصلة إلى "الذات الزائفة". فههنا تُستبدَل بالأعراض سماتُ الطبع، ويحلُّ التشكُّل الطبعي محلَّ التشكُّل الأعراضي. فإذا استبانت هنا باثولوجيا فإنها لا يمكن أن تكون إلا جسمية، تصيب الجسم في واقعيَّته. الأعضاء هي الأعضاء، والجسم برمَّته يمكن أن يتضرر من حيث كونُه سيرورة بيولوجية. لذا، بالمناسبة، يتعلق التجسيم بالحَرْفي وبالحيادي، وليس بالمجازي، والمعنى الذي يمكن أن نضمِّنه فيه معنى ثانوي ينضاف إلى العَرَض لاحقاً، لكنه لا يعيِّن إيتيولوجيَّته [= منشئيَّته]. فههنا، كل شيء كبت، لكنْ بدون عودة للمكبوت. وهو وضع يفضي إما إلى اختفاء الأحلام من الحياة النفسية، وإما إلى تعديل وظيفة الحلم بعينها؛ فلا تعود تظهر منذئذٍ إلا أحلام عن العمل، يبرمجُها الأنا الأعلى ويقيِّض لها أن تكون نفياً للحلم. فالأحلام التي نحسبها – خطأً – أحلاماً واقعية، تتسم بنقص في الصياغة، إنما تستجيب في الواقع لإيعاز بعدم الحلم، بالاستمرار في العمل، وهي بذلك مكافئة للأرق. وفي هذا نقد أساسي لكلا "الفكر العملياتي" و"الألكسيثيميا"، بمقدار ما يغفل كلاهما عن عمق عمل الكبت – وهو عمل، من جانبه، لا ينفصل عن الأداء الطبعي ويتطلب، لكي يُفكَّر فيه، نموذجاً نظرياً آخر.

يقابل الكبتَ الناجحَ لوظيفة الخيال اكتئابٌ بَدَري من شأنه أن يتطابق تطابقاً تاماً مع الأنا الأعلى، إلى حدِّ أنه يشهد تلاشي كل نزاع معه. وهذا الأخير أنا أعلى جسماني يتكل عليه الفردُ لكي يحدد موقعه في المكان والزمن كما وفي الوظائف الجسمانية غير الذاتية الحكم؛ أي أن الأنا الأعلى الجسماني يطرح على نحو آخر إشكالية النرجسية برمَّتها، وأن إلغاء الذاتية، الذي تتسم به باثولوجيا التكيُّف إلى حدٍّ كبير، عبارة عن طريقة وجود بفضل عدم الوجود، وبالتالي، طريقة امتثال لإلزامات الأنا الأعلى الجسماني. إن نفي الذات يمر عبر إثبات قدرة كلية يشارك فيها المرء. ولنُشِر، بالإضافة إلى ما تقدم، أن الكبت الطبعي للخيال يمكن أن تكون له مكافئاتٌ في بعض العلاجات الكيميائية القائمة على المتقبِّضات العصبية، في جملة أدوية أخرى، والتي، إذ تبدِّل فعلياً الطور الخُلفي للنوم، تفضي إلى تعطيل وظيفة الخيال برمَّتها. وسواء اختفت هذه الوظيفة فعلاً أو غُيِّبت من جراء كبتٍ يدوم بلا ثغرات، فنحن في كلا الحالين بإزاء باثولوجيا طبعية يبقى فيها التجسيم، عندما يظهر، على ترابط سلبي مع الخيال، وتشهد على الصعوبة الجمَّة في القيام بنكوصات.

*

ومع ذلك فإن التجسيم لا يُختزَل إلى الأداء وحده، بما أنه يتم في وضع لامخرجي، على العكس مما تقول به النظريات المصاغة حتى الآن التي تشتق كل شيء من بنية الشخصية. يتفرد الوضع اللامخرجي بوجود نزاع غير قابل للحل لأنه يتضمن تناقضاً، فيبقى، بهذه المثابة، متميزاً عن النزاع العصابي الذي يتخذ شكل الخيار البسيط: "أ أو نفي–أ"؛ بينما يعبَّر عن اللامخرجية في آنٍ معاً بـ"أ أو نفي–أ و لا أ ولا نفي–أ". وبذلك فإن النزاع، في بنيانه المنطقي، يكون أقرب إلى الذهان، الأمر الذي يحول، في الوقت نفسه، دون الكلام على "عصاب عضوي". ثمة، علاوة على ذلك، علاقة خاصة بين التجسيم والذهان: كل شيء بالفعل يجري كما لو أن كليهما يحصل في الوضع اللامخرجي عينه، كما لو كنا نواجه في كلتا الحالتين مالايُعقَلَ التناقض، مع فارق أن الذهان، عندما يصاغ عبر الهذيان حصراً، عبارة عن محاولة أخيرة لعَقْل مالايُعقَل، ولعَقْلِه بالدقة على الرغم من العقل.

المخرج الذهاني ممكن إذن؛ وبهذا المعنى فإن الذهان، بتخطيه لما لا يُتَخَطَّى، يُمَوْضِع طرفَي النزاع، وبذلك، يقوم بالعبور من الجسم الواقعي إلى الجسم الخيالي. فالذهان يدرأ من التجسيم، بحيث إن ترابطاً سلبياً يتوطد بينهما، الأمر الذي، فضلاً عن ذلك، يعلِّل معاينةً غريبة قلما يعاني الذهانيون بمقتضاها من المرض العضويِّ الذي، من جانبه، يهاجم الجسم الواقعي.

وهذا يسمح، إلى ذلك، بإقامة صلة أساسية بين اللامخرجية والاكتئاب، وهو ارتياب منطقي لا تُختزَل إشكاليتُه إلى مجرد انخفاض في المقوية الحيوية، بل تبقى بالأحرى علائقية من أولها إلى آخرها: الـ"نعم" والـ"لا" سيان عند المكتئب، وكل شيء يتسم في نظره بسمة سلبية،[6] الأمر الذي يحيل في المآل إلى علاقة مبكرة مع أم مكتئبة، حاضرة بغيابها، غائبة بحضورها، تضع طفلها أمام خيار لا حلَّ له، من حيث إنه يشعر بنفسه مداناً مهما فعل. لا شيء يتوسط بعدُ بينه وبين الغياب: غياب الحب، غياب التبادل، غياب المحبوب. بهذا يصير الوضع لا يطاق من وجهين: فهي تسد كل المخارج، وهي لا تترك للطفل حتى إمكانية وضع حدٍّ لعلاقة اتكال مطلق لا تمنح الوجود إلا لكي تستردَّه. قالت إحدى المعاوِدات: "لم تكن أمي تعلم أنني في حضنها، بل كانت تفكر في أمر آخر. عندما كانت تتغيب كانت شديدة الحضور، وعندما كانت حاضرة كانت غائبة تماماً." فإذا كانت اللامخرجية متحالفة مع التناقض، فمن شأنها أن تتجلَّى في أشكال مشتقة تفضي جميعاً، على الرغم من تنوُّعها، إلى الارتياب المنطقي عينه. هذا ما يوضِّحه مثال مشهور، مِيزتُه أنه قبل كل شيء اكتشاف تجريبي، وأعني الطريقة التي وصف بها ألكزاندر النزاع الخاص بالقرحة المَعِدِية.[7] فباستثناء العوامل التكوينية، كما نعلم، يُرجِع ألكزاندر قرحة المعدة إلى اتكال فموي لاواعٍ، إلى حاجة المرء إلى أن يتغذَّى ويُحَبَّ بشكل منفعل [سلبي]. أما عند الأفراد "الأسوياء" فإن هذه الحاجة لا تُقبَل على الإطلاق، بل تحرِّض، بمقتضى مثال، موقفَ رفض يجسِّده فرط نشاط معاوِض. وهذا النشاط يجعل هؤلاء الأفراد، في أوضاع التنافس المهني، يجابهون عدوانية تحرِّض الخوف من الاقتصاص. هنا يظهر شعور بالذنب، يدفع بهم إلى الاستجابة انفعالياً للعدوانية، الأمر الذي يعود بنا إلى نقطة الانطلاق. بذلك ترتسم دائرة معيبة، حيث يحث الانفعالُ الفعلَ ويحث الفعلُ الانفعالَ، والنزاع الذي يتمثل أولاً كمجرد خيار عصابي، يتضمن إمكانية اختيار واحد من الحدَّين الماثلين، لا بل احتمال الجمع بين الاثنين في حلٍّ تنازلي، يؤول إلى الدوران في الفراغ، إلى عضِّ ذيله، إلى الاستعصاء على الحل. اللامخرجية هي هذا التعذُّر في إيجاد مخرج، وهذا الأمر يؤهِّب للتجسيم. نتيجة لذلك، ليس الأداء التكيُّفي بحدِّ ذاته مولِّداً للمرض، لكنه يمكن أن يصير كذلك، معجِّلاً في تجسيم في الجسم الواقعي، حيثما يجد الفرد نفسه فجأة في طريق مسدود.

*

الشكل الثالث الكبير من أشكال الباثولوجيا التي يُعرَّف بها، هي الأخرى، بالنسبة إلى كبت وظيفة الخيال، هي عبارة عن العبور من الكبت الفاشل إلى الكبت الناجح. تبدأ الأحلام بالحضور في أداء نفسي يشبه العصاب الذهاني، قبل أن تختفي اختفاءً يكاد يكون تاماً لمدة طويلة لأسباب يصعب حصرها، إنما يبدو أنها مرتبطة بالحِداد. غير أن الأمر اللافت هو أن هذا التغيير في الأداء، الذي يترافق بشعور بالفقد، لا يقتصر على المجال النفسي؛ فهو، على العكس، يستجرُّ تعديلاً في الباثولوجيا التي تنتشر من الجسم الخيالي إلى صعيد الجسم الواقعي، حيث يخلي المجازيُّ الساحةَ اختلاساً للحَرْفيِّ والحيادي، في حين ينغرس المرء أكثر فأكثر في وضع يتصف بكل خصائص اللامخرجية.

*

بالتوازي مع ما سبق، يحسن بنا أن نشدد على وجود محور أداء رابع، يتصف بتحول تدريجي للكبت إلى كبت فاشل، إبان سيرورة علاجية تؤتي أُكلها أخيراً. ومع استرجاع وظيفة الحلم الذي يندمج شيئاً فشيئاً في الأداء النفسي، نشهد خروجاً من اللامخرجية التي، في غياب ذلك، تبقى مرتبطة بالتجسيمات وبخطر التجسيمات على صعيد الجسم الواقعي.

على أنه يهمنا أن نلفت النظر إلى أن كل مرض ليس بالضرورة تجسيماً، وأنه ينبغي أن تنطرح مسألة معرفة الروابط الممكنة الموجودة بين باثولوجيا معطاة وحياة الفرد؛ الأمر الذي يبقي الميدان مفتوحاً للاكتشاف، بمنأى عن وهم الاعتقاد بأنه يمكن الإجابة على كلٍّ شيء اعتباراً من مبدأ واحد.

*

إن المحاجَجة التي بسطناها حتى الآن، التي تشكل في آن معاً امتداداً للنموذج الفرويدي وقطيعة معه، تحول بيننا وبين أن نرى في التجسيم إما تنويعاً للعصاب الحالي المتَّسم بقصور في الصياغة النفسية، وإما شكلاً مشتقاً من الهستيريا التحويلية، حيث يطابَق بين التناذر العضوي وبين محتوى رمزي مكبوت يعود بعد فشل الكبت، وإما، أخيراً، على غرار نظرية لاكان في الذهان، تجلياً في الجسم لما لا يقبل الترميز – وكلها منطلقات، مع أنها تعكس مواقف نظرية متباعدة، تتموقَع ضمن الباثولوجيا النفسية الفرويدية، باعتبارها الإطار المرجعي الممكن الوحيد. بيد أن البحث في النفسجسميات يتصل هنا بتساؤل جذري حول منزلة الجسم بمقتضى نموذج نظري متعدد الأبعاد، يُجتهَد، بالمناسبة، في تبيان مَتاتِه فيما يتعلق بالظاهرات التي تبقى فيها إشكالية الجسم غير قابلة للفصل عن إشكالية المكان والزمن. فإذا تبيَّن أن المكان والزمن بُعدان أساسيان، فذلك لأنهما يحيلان بإصرار إلى تساؤل يظل ماثلاً في خلفية الإنجاز الفرويدي، ويستنهضان في الوقت نفسه الإبداعَ العلمي والتحليلَ الذاتي. وهو تساؤل كانت فيه الجانبية[8] المكوِّنة للمكان الجسماني مناسَبة لفرويد لاستيعاء معيَّن تَرافَق باتخاذ موقف، متطابق قطعاً مع النموذج النظري في طور الصياغة، لكنه لا يغيِّب إشكالية أخرى. ذلكم بالفعل ثمن كل خيار يريد أن يكون متماسكاً. ولهذا تضعنا ثيمة المكان والزمن من فورها في أصل عمل خلاق وتسمح بإلقاء ضوء مختلف على تاريخ أحد الاكتشافات.

*

غير أن الجانبية لا تقبل الإرجاع إلى واقع تشريحي بما أنها موجودة في منطلق سيرورة إسقاط يناط بها بناء المكان والزمن. وبهذا نبقى أقرب ما نكون من الجسم عينه وهو يؤدي عمله كمخطط تمثيل ويتأرجح بين الواقعي والخيالي. لكن الجانبية متحالفة مع الجانبية الدماغية، بحيث أمكن توطيد علاقة بين الجهاز العصبي المركزي وبين الجهاز المناعي، من ناحية، وبين الجهاز المناعي وبين السائد الدماغي، من ناحية أخرى. وإذ تغلق هذه العلاقة الدائرة، تسمح، في بعض أمراض المناعة الذاتية، كالداء السكري على سبيل المثال، باستشفاف إمكانية شد التناذر العضوي إلى طوارئ تكوين المكان الجسماني ومكان التمثيل. وعلى نحو مقايس، يفتح الزمن، المندرج في إيقاع جسماني توسِّعه بعض مكتشفات البيولوجيا الزمنية، مجالاً يمكن فيه التعرف إلى باثولوجيا نفسجسمية تتراوح بين الخيال وبين المبتذل وتستدعي من جديد العلاقة بين الزمن وبين اللاوعي.

*

في صياغة للثيمة التي كرَّسنا لها هذه الاعتبارات أوْلَيْنا انتباهاً خاصاً لإشكالية البصر التي تقع على الحد بين الجسم الواقعي وبين الجسم الخيالي من خلال باثولوجيات قلما تم تناولها من زاوية النفسجسميات. وفضلاً عن ذلك تمتد هذه الثيمة نفسها في مجال الجماليات حيث قمنا بتحليل الروابط المركَّبة التي تشد حاسة البصر إلى المكان وإلى الإسقاط اعتماداً على مثال واحد: نظرية ألبرتي في المنظور.

*** *** ***

ترجمة ديمتري أفييرينوس


[1] الطبابة التي تبحث في الاضطرابات الجسمية الناشئة عن اضطرابات ذهنية أو نفسية نتيجة اختلال حاد أو مزمن في توازن حيوي ضعيف ناجم عن ضغط نفساني. ولعل أوضح الأمثلة على الأمراض النفسجسمية الربو والقرحة الهضمية والتهاب القولون القرحي. (المترجم)

[2] النوم الخُلفي هو طور النوم الذي تظهر فيه الأحلام، ويتسم بنشاط دماغي مقايس للنشاط المسجَّل إبان حالة الصحو حين تكون العضلات مسترخية تماماً، كما ترافقه حركات العينين السريعة REM. (م)

[3] السيرورة التي يمتص الفرد عن طريقها، أو يستدمج في بناء الأنا، شخصاً أو موضوعاً، كلياً أو جزئياً، بحيث تصير علاقته بالشخص أو الموضوع المُستدمَج علاقة مع صورة الشخص أو الموضوع "في الداخل" بدلاً من أن تكون مع الشخص أو الموضوع "في الخارج"؛ والاستدماج عبارة عن دفاع، وفي الوقت نفسه، سيرورة تطورية سوية: دفاع لأنه يخفف قلق فراق المحبوب، وسيرورة تطورية لأنه يساعد الفرد على تحقيق حكم ذاتي متزايد. وعكسه الإسقاط، وهو سيرورة نفسية تتجه من محور الداخل إلى الخارج، معاكسة بذلك الإدراك الذي ينقل صور الأشياء إلى النفس عبر الحواس؛ فالإسقاط ينقل صور أشياء قابعة في اللاوعي إلى موضوع خارجي، لكي تعود الحواس فتتلقَّفه ثانية من الخارج إلى الداخل. (م)

[4] أي تحويل اضطرابات أو نزاعات نفسية إلى أعراض جسمية وظيفية. (م)

[5] الهستيريا التحويلية شكل من أشكال العصاب يتظاهر بأعراض جسمانية، سببُها ليس عضوياً بل نفسي، ويحمي فيه المرضُ المريضَ من الموقف المسبِّب للإصابة؛ من هنا فهو لا يكترث بالمرض، حتى وإن كان معوِّقاً له من الناحية العضوية، لأنه يشعر بأن وضعه في وجود المرض أفضل من مواجهته للواقع الذي يتهرب منه. (م)

[6] يقول زورْن: "كلما تحسَّنتُ ساءت حالي."

[7] وإن كنا نأخذ على هذا المؤلف لغته المنزعية التي تغيِّب البُعد العلائقي، وتحيل بذلك كل شيء إلى السيرورة الداخلية، أي إلى الأداء وحسب. بهذا المعنى، إذا كان الأداء يراوح مكانه، فإن هذا علامة على انغلاق علائقي يشير إلى وجود لامخرجية. هذه الملاحظة تصح أيضاً على باثولوجيات أخرى، ولا سيما الخاصة منها بالجهاز المناعي، الذي يؤدي أداءً يبدو متناقضاً، كما في أمراض المناعة الذاتية.

[8] السيادة الوظيفية لأحد جانبي الجسم على الآخر التي تجعل الفرد يفضل، على سبيل المثال، استعمال ذراعه اليمنى على اليسرى، وبالعكس. (م)

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود