frencharabic 

الفُكاهة[1]

كلمة "فُكاهة" humour بالفرنسية مشتقة من "مِزاج" [أو "خِلْط"] humeur، وأصلها كلمة humor اللاتينية التي تدل على عنصر سائل[2]. فالمِزاجُ [أو الخِلْط] دل أولاً على سائل عضوي من سوائل الجسم البشري، ثم صار يشير إلى الطبع، لأن القوم كانوا قديمًا ينسبون الطبعَ إلى تركيب [مَزْج] هذه "الأخلاط" [أو "الأمزِجة"] (والرئيسية منها أربعة: الدم والصفراء[3] والسوداء[4] والبلغم). وإذ ذاك كان للمزاج استخدامان ضدان: مرة يدل على "مَيلٍ إلى المزاح والدعابة" (المِزاج الطيِّب)، وتارةً يدل على "ميل إلى السخط والغضب" (المِزاج السيئ). ولقد استفادت كلمةُ humour الإنكليزية من الفرنسية المعنى الأول من هذين المعنيين، ثم عادت هذه الكلمة لتندرج بهذه المثابة في الفرنسية.

تقول حكمةُ الأمم إنه "خير لنا أن نضحك من النائبة من أن نبكي منها" – وما تقوله حق. فأنْ يتبنى المرء موقفَ فُكاهة حيال الأحداث يعني أن يجد نفسه في موقف يؤهِّب فيه كل شيء للسخط، وأن يقلب مجرى الأشياء الطبيعي، وذلك بأن يقرر اللجوء إلى المزاح. فالفكاهة هي طريقة لمقاومة المصائب؛ إنها وسيلة للذبِّ عن النفس ضد الكرب. بذا فإن التفكُّه تكذيب للواقع، بما يجعل الفكاهة بمثابة عزيمة[5]. فأمام الظروف، يُفترَض في صاحب الفكاهة أن يكون سيئ المِزاج، فيقرر أن يكون طيب المِزاج؛ إذْ إنه، في مواجهة صعوبات حياته، يصمم على ألا يكونَ سوداوي المِزاج، على ألا تغلب على دمه السوداءُ أو المِرَّة، بل على العكس أن يحتفظَ ببرودة دمه [رباطة جأشه] وألا يخسر بلغمه [هدوء طبعه] وأن يتحملَ نوائبَ الدهر بطيبة خاطر.

الفكاهة هي نظرة باسمة إلى الذات والآخرين والعالم. فليس من باب المجاز أن يقال عن صاحب الفكاهة إنه "روحاني" spirituel؛ إذ إن الفكاهة فضيلة. فلوم أحدهم على "عدم التمتع بحسِّ الفكاهة" يبين جيدًا أن الافتقار إلى الفكاهة من العيوب.

إن الفكاهة، إذ تتيح للفرد أن يدفع عن نفسه السخط والخوف والغيظ والغضب، تقدم له إمكانية حماية نفسه من الحقد والعنف. فضلاً عن ذلك، تمتلك الفكاهة، في حدِّ ذاتها، قوةً هائلةً على العدوى وقدرةً عظيمةً على الإقناع. فالمُشاهد–المستمع الذي يشاهد الظريف ويستمع إليه يجد نفسَه مستعدًّا لاتِّباعه على الطريق الذي سلكه ويلبي بطيبة خاطر دعوتَه التي قدَّمها له ليشاركه تمتُّعه بالفكاهة.

يمكن للمرء، كذلك، أن يتفكَّه ليس فقط على نفسه، بل على الآخرين. فإذا كانت الفكاهة موسومةً باللطف، يمكن للآخرين إذ ذاك أن يضحكوا على أنفسهم. أما إذا أصبحَتْ سخريةً، فإن السخرية تُخاطِرُ بألا تجعلهم يضحكون البتة. وبهذا يمكن للفكاهة أن تعوجَّ وتتحول إلى تهكُّم من شأنه أن يجرح مَن هو في مرمى النقد؛ لا بل أن تصير هزءًا هو ازدراء وخبث، ومن ثَمَّ عنف.

من المناسب جدًّا، في أثناء المظاهرات الشعبية اللاعنفية، أن يُعبِّر المرءُ عن نفسه باللجوء إلى قوة الفكاهة. فالفكاهة، في حدِّ ذاتها، هي قوةُ مقاومة وتحدٍّ للخصم الذي قد يجد نفسَه مباغَتًا في مواجهتها؛ إذ إن الفكاهة تأتي فتعطِّل خيرةَ حُجَجه. الفكاهة قادرة على التجريد من السلاح؛ وهي "سلاح" لا يستهان به من حيث إنها استهانة جذرية بسلطان المقتدرين.

فضلاً عن ذلك، يمكن للفكاهة أن تصبح ورقةً رابحةً مهمةً في معركة الرأي العام. فمن شأن الفكاهة أن تحرض لدى الشعب ردة فعل مرحة من التعاطف وموقفَ تعاطف مع مَن يقومون بالعمل. ومن المفيد دومًا "كسب مودة الضاحكين". فبتحريضنا الضحك نيسِّر كسب التأييد. إن كلمةً تؤدي إلى رسم ابتسامة قد تكون أكثر إقناعًا من محاجَجة طويلة تتطلب إعمالَ التفكير. لكن، هنا أيضًا، يجدر تفادي الهزء الذي يتقاطع واحتقارَ الخصم.

·        الكلام

ترجمة: محمد علي عبد الجليل

مراجعة: ديمتري أڤييرينوس


horizontal rule

[1] الفُكاهة: المزاح والظرف وما يُتمتَّع به من طُرَف الكلام، وهو من الأصل الثلاثي "فَكِهَ" الرجل يَفكَه فَكَهًا وفَكاهةً، أي كان طيب النفس مَزاحًا ضحوكًا يحدِّث أصحابه فيُضحكُهم. (المترجم)

[2] نلاحظ أيضًا التشابه اللفظي (جناس ناقص) في العربية بين المِزاج humeur والمُِزاح humour؛ فالمزاح هو مِزاج طيِّب. والمِزاج [أو الخِلْط] هو أحد سوائل الجسم الأربعة الأساسية التي تميز الطبائع الأربعة (من الفعل "مَزَجَ" [و"خَلَطَ"]: يقال للمادة السائلة.) (المترجم)

[3] الصفراء: هي المِرَّة، وهي مادة سائلة تفرزها الكبد. (المترجم)

[4] السوداء: هي المِرَّة السوداء التي كان يُعتقَد أنها السبب في سوداوية المزاج وعدم استقراره فيما كان يُعرَف بـ"المالخوليا" mélancolie. (المُراجع)

[5] العزيمة: هي الرُّقيَة التي تُقرأ على المريض ليبرأ أو على مَن تتلبسه روحٌ شريرة لطردها. (المُراجع)

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني