|
إضاءات
بوسع القيادة التكاملية تقدير الآثار المترتبة على اتساع رقعة الفقر وحدَّته على البشرية جمعاء؛ فالفقر كوكبي بطبيعته. ويلحظ زويرِب بفطنة أن الإخفاق في مكافحة الفقر في بقعة من العالم هو إخفاق في كل البقاع؛ فمع الفقر، الكل خاسرون. ولكون البشر جميعًا على ترابط مع بعضهم البعض، فـ"فقرك هو فقري، إن لم يكن هو شغلي الشاغل" (2008، ص 7). والفقر مثال جليٌّ على تعدد الأزمات، وهو المصطلح الذي يستخدمه موران (1999 آ) لتوصيف وضع لا تحتله مشكلة واحدة كبيرة بمفردها، بل سلسلة من المشاكل المتداخلة والمترابطة. ففي هذا الوضع، هناك ارتكاس بَيْني بين مختلف المشاكل والأزمات والتهديدات. فالفقر عملية معقَّدة يتداخل فيها ما هو اجتماعي مع ما هو طبيعي (فان بريدا، 2008). وبما أن تعددية الأزمات هذه من صنع الإنسان، فإنها تقع ضمن نطاق قدرته على معالجتها. بيد أن هذه المعالجة تستلزم طرائق جديدة في التفكير والعمل (مِنشو، 2007).
تبقى الملاحظات حول الفن والفضاء والتداخل بينهما موضع تساؤل، حتى لو عبَّرنا عنها في صيغة توكيدات. هذه الملاحظات محصورة بالفنون التشكيلية، وبفن النحت من بينها. الهياكل المنحوتة هي أجسام. ومادتها، المؤلفة من مواد مختلفة، تصاغ بشكل متنوع. ويقع هذا الصوغ عبر التحديد بوصفه تعيينًا لحدٍّ مطوِّقٍ ومستبعِد. بهذا يلج الفضاء إلى المسرح. وعندما يصبح ممتلئًا بالهيكل المنحوت يتلقى الفضاء طابعه الخاص كحجم مغلق ومخترَق وفارغ. تلك الحالة المألوفة، لكن، المحيِّرة أيضًا. الجسم المنحوت يجسِّم شيئًا ما. هل يجسِّم الفضاء؟ هل النحت احتلال للفضاء، هيمنة على الفضاء؟ هل النحت بهذا، يماثل الاستيلاء التكنولوجي العلمي على الفضاء؟ بالطبع، النحت، بوصفه فنًا، يتعامل مع الفضاء الفني. إن كلاً من الفن والتكنولوجيا العلمية يغيِّر الفضاء ويشتغل عليه لغايات مختلفة وبأساليب مختلفة.
العلمانية التي ما انفكَّت تثير سجالات لم تهدأ في العالم العربي والإسلامي حتى اليوم، باتت بحاجة ماسَّة إلى إعادة نظر، بعيدًا عن التبسيط والنمذجة التي لحقت بهذا المفهوم وأضرَّت به بشدة. فالنقاشات التي تدور حول العلمانية في الإسلام تنطلق من أداة قياس هي التجربة الأوروبية، ولعل هذا أول إشكالات التعاطي مع الأمر. فإذ تحيلنا التجربة الأوروبية إلى حروبٍ دينية استمرت قرونًا، فإن الاستقراء الدقيق للتاريخ العربي والإسلامي يشير بوضوح إلى أن القيمة الجوهرية للعلمانية، ونعني "حريَّة الفكر" وما إليها من احترام التنوع الديني، كانت مزدهرة في التاريخ الإسلامي المبكِّر قبل أن تتبلور في أوروبا بعد قرونٍ من الحروب الدامية.
إثر قيامي بنشر هذا البحث على صفحات موقع معابر خلال الأعوام 2003 - 2004، وصلني الكثير من ردود الفعل التي كان بعضها طريفًا، وبعضها الآخر أكثر عمقًا، ولكن جميعها تستحق التوقف عندها والتأمل بها. الأمر الذي دفعني إلى المزيد من التفكير فيما كتبته حول هذا الموضوع الشائك والمعقد. وبالتالي، إلى كتابة هذه الخاتمة المتأخرة لهذا البحث المتواضع من أجل توضيح بعض الأمور والإجابة عن بعض التساؤلات المشروعة. فبعض من قرأ النصَّ في حينه بعث إليَّ برسائل تسألني حول كيف بوسعه الانتساب إلى هذه الأخوية. ما يعني ربما أنه قد فهم مما طرحته أني عضو فيها، و/أو أنَّ ما بيَّنته من وقائع حولها قد أعجبه. وهذا موقف مشروع ولكن لا علاقة لي به على الإطلاق، حيث أنَّ قصدي الوحيد من هذه المحاولة كان تبيان وقائع توضِّح إيجاب وسلب ذلك التنظيم المسارِّي النقلي المفترض وليس الترويج له أو لسواه، فهذا الأمر لا يعنيني!
ب. رموز الطبيعة أو الإلهام الروحي للطبيعة: لقد نظر الصوفي إلى الطبيعة بوصفها تعينات وفيوضات مادية للجمال الإلهي فحاول استنطاقها والتوصل من خلالها إلى فك شيفراتها التي يخاطبنا بها العلو، وهذا يئول بنا إلى فرق جوهري يحيل إلى اختلاف أساسي بين نمطين: الأول عيني حسي خالص في وضع لاتجاوزي، والثاني عيني حسي يتعالى بواسطة الكيف الحسي الخيالي إلى تركيب شهود عياني لسريان الألوهية في الطبيعة التي تحولت، من خلال الموقف الروحي والتشكل الغنوصي للتجربة الصوفية في إهابتها بالعلو المحاديث، إلى شيفرة أو شيفرات يقرأ الصوفي فيها، بضرب من الكشف، لغةً ذات حدين إحاليين أحدهما حسي فيزيائي والآخر روحي إلهي، فيرسي تصورًا عرفانيًا للطبيعة يعتقد في سريان الجوهر الإلهي فيها جامدها وحيها، وتحليلاً للعلاقة بين الوحدة والكثرة المنبثقة فيها، فعالم الطبيعة، على حد قول ابن عربي، "صور في مرآة واحدة بل صورة واحدة في مرايا مختلفة".
يختلفُ إدراكُ العالَمِ الخارجي من إنسان إلى آخر ومن مجموعة لغوية إلى أخرى. ففي المحاكاة الصوتية onomatopée مثلاً، تدركُ كلُّ مجموعة لغوية الصوتَ الخارجي وتفسره بطريقة مختلفة. فالعربُ سمِعوا صوتَ الدجاجةِ والضفدعِ كِلَـيْـهِما "نقيقًا"، بينما سمِعَه الفرنسيون "غْلوسُّمون" gloussement للدجاجةِ و"كْواسّْـمُـن" coassement للضفدع. وصوتُ الكلب عبَّرَتْ عنه اللغةُ الفرنسية بكلمة (aboi) و(aboiement) والإنكليزية بكلمة (bark)، بينما عبَّرَتْ عنه العربيةُ بكلمة (عواء)، وذلك حسبما تلقَّى الفرنسيون والإنكليزُ والعربُ الصوتَ وأدخلوه في نظامهم اللغوي. وقد أقرَّ القرآنُ بالاختلاف اللغوي بين البشر كآية من آيات الله: "ومن آياته خلْقُ السماوات والأرض واختلافُ ألسنتكم وألوانكم. إنَّ في ذلك لآياتٍ للعالِمين"، كما أقرَّ أيضًا بالاختلاف الديني: "ولو شاء اللهُ لجعلَكم أُمَّةً واحدةً." "ولو شاء اللهُ لجعلَكم أُمَّةً واحدةً، ولكنْ يُضِلُّ مَنْ يشاءُ ويهدي مَنْ يشاءُ، ولَتُسْألُنَّ عما كنتم تعملون."
لقد نحتت عصبة الأمم في جنيف لفظة apatride أي الذي لا وطن له. وإن لم تخني الذاكرة أظن أن هذا الوضع القانوني الغريب أعطي للروس الذين غادروا بلادهم بعد الثورة البلشفية، ولجأ الكثيرون منهم إلى باريس ولم يحصلوا على الجنسيِّة الفرنسيِّة، أو لم يطلبوها، لاعتبار أنفسهم روسيين معنويًا أو أدبيًا، ولم يصيروا فرنسيين بالمعنى القانوني، فأضطرت عصبة الأمم إلى أن تنشئ هذا الوضع الجديد. تاليًا الوطن انتساب قانوني تريده وليس فقط الرقعة التي تولد عليها. لا يكفي أن تحب الأرض التي جئتها إذ يجب أن تختار دولتها. الدولة إذًا تشكَّل إنطلاقًا من أناس يرتضونها ويؤلِّفونها بمئة شكل وشكل. هي بنية يصنعها المواطنون، فإذا أرادوها كانت وهم أمة في حدودها. وإذا أرادوها يعنون أنهم منضوون تحت لوائها، ولها عليهم حق الإخلاص بحيث لا يريدون انتظامهم في غيرها، إذ لا يستطيعون الإنتماء إلى أوطان أخرى إلا إذا خانوا. والدولة ضعيفة إن أرادوا لها الضعف، وقادرة إن أرادوا لها القدرة. من هذه الزاوية كانت الدولة مرآة المجتمع، وتصبح في آن أداة في خدمة هذا المجتمع بالدفاع عنه، بحمايته، بترقيته؛ فعلى قدر ما يخلص لها تخلص هي أيضًا له، وفي شدَّتها تلازمه ويلازمها.
لحُرِّيـَّة أعذب وأقدس قيم الإنسان، ومن أجلها قامت الحروب والثورات على مرِّ التاريخ والزمان. حرِّية الإنسان وحقه في الحياة الحرة الآمنة والكريمة، حياة في ظلِّ نظام سياسي واجتماعي عادل يحترم إنسانية الإنسان ويتعامل معه كعقل وفكر وروح، فالخالق العظيم خلق الإنسان وكرمه على باقي مخلوقاته. والحرية ليست مجرَّد كلمة يتناولها الجميع بدون أن تترجم إلى إحساس إنساني بقيم هذه الكلمة العظيمة. فمنذ وجود الإنسان على الأرض وظهور المجتمعات البشرية وما يحدث داخلها من صراعات ونزاعات تصادر حريات الآخرين على حساب حريات يصبح الإنسان فيها هو سلعة وحيدة بخسة الثمن حيث تهدر كرامته وإنسانيته لأجل رغيف من الخبز يسكت به جوعه أو قطعة ثياب رثَّة يستر بها عريه. منذ وجود الإنسان والحرية تأخذ حيِّزًا كبيرًا ومساحات شاسعة من تفكير وقلق العقل البشري واهتماماته، سواءً على مستوى القانون أو المجتمع أو الفكر إلى آخر المجالات التي يمكن أن يصل مفهوم الحرية إليها سواء كان التفاعل والتواصل الإنساني بين الفرد وبين المجتمع وعيًا أو ممارسة جماعية.
|
|
|